دليل ماسة
أكثر الروابط استخداما
لن تجد في الهرمل من يخبرك نكتة عن «الحماصنة». ولن تنجح، مهما حاولت، أن تقنع أحداً بأن «حلاوة الجبن» الطرابلسية أطيب من تلك التي يقصدون محلات «السقّا» و«السلقيني» على طريق حمص ــــ الشام لشرائها، أو أن بقلاوة صيدا أفضل من بقلاوة «حلويات الناطور» في جورة الشياح، أو أن هناك في العالم من يخبز فطائر الجوز غير «أبو اللبن» في «السوق المقبي».
بيوت الهرمليين «تنضح حمص». في مدينتها الصناعية يصلحون سياراتهم وآلياتهم الزراعية. من جورة الشيّاح يشترون أثاث منازلهم من «فرش الصالون» الى «زرّ» الكهرباء مروراً بـ «صوبة» المازوت. من «سوق الدبلان» يشترون ملابسهم. ومن «السوق المقبي» ذهبهم وتوابلهم وعطوراتهم. حمص هي «جهاز العروس» و«الجوهرجي» و«بيّاع الخواتم». لن تصلك دعوة لحضور زفاف في الهرمل من دون أن تكون مذيّلة بجملتين أبديتين: «جنّة الأطفال منازلهم» و«مطبعة الأندلس ــــ حمص».
حمص، للهرمليين، هي الطبيب والمستشفى والصيدلية والدواء. الجامعة والمعهد، السوق والمطعم والمقهى. هي، باختصار، عاصمتهم ونافذتهم على العالم والرئة التي يتنفّسون بها، بل هي هواؤهم الذي يتنفسّونه. لذا ليس غريباً، منذ أن «سكّرت» حمص على نفسها وعليهم، ذاك الشعور بالاختناق الذي يطبق على صدورهم. وهم، اليوم، إذ يرون على شاشات التلفزيون أماكن لطالما ألفوها، تفلت منهم على الفور عبارة: «ضيعان حمص»... حمص وكفى. هكذا، وكأنما كل سوريا حمص. يتساوى في ذلك من يؤيّد النظام منهم أو من يتعاطف مع المعارضة.
يحفظون المدينة كأكفّ أيديهم، هم الذين تقتلهم الغربة متى قطعوا سهل «الشرقي» في اتجاه بيروت. لم يكن المشوار الى حمص التي لا تنام يحتاج الى أكثر من خمس دقائق حتى «يركب»، والى أكثر من ساعة، حتى تكون في «ساحة الساعة» أو «دوّار الرئيس». اجراءات عبور الحدود عبر معبر «الأمانة» في بلدة القاع المجاورة لا تشبه مثيلتها على بقية المعابر الرسمية بين لبنان وسوريا. والعلاقة بين المدينتين لا تشبه أي علاقة بين مدينتين حدوديتين في لبنان أو في دول العالم الثالث. لن تجد هنا، على جانبي الحدود، محلات تتكاثر كالفطر تقتنص العابرين في الدقائق الأخيرة قبل عبورهم. هي ــــ وهذه ليست مزحة ــــ أقرب ما تكون الى علاقة بين مدينتين حدوديتين أوروبيتين، تسودها السلاسة والنعومة والسكينة الى حد كبير.
بين الساعة القديمة والساعة الجديدة مرور إلزامي بمقهى «الروضة». من تضيّعه من رفاق السفر تجده هناك أو في «ملحمة الزهراء» قرب جورة الشياح. تُضرب المواعيد في مطعم «سكاي فيو» قرب الساعة او في «الآغا» أو «قصر جونية» قرب الحميدية، أو في واحد من مطاعم ضفاف العاصي: «مرسيا»، «أميسا غاردن»، «دوار المهندسين» أو «ديك الجن»... وغيرها.
لن تجد في الهرمل من يخبرك نكتة عن «الحماصنة» لأن الحمصي، للهرملي، بعيد عن التنميط اللبناني. هو تاجر ذكي، فطن، وصاحب نكتة. تاجر مديني بـ «معايير ريفية». ففي حمص فقط، ليس في بعلبك أو زحلة أو بيروت أو الضاحية، يمكن لابن الهرمل أن يشتري ملابس أو ذهباً، أو ما شاء، تقسيطاً «على الثقة» وبضمانات شفهية، أو ربما على وعد بالدفع في المشوار القادم. وهي ثقة قلّما مُحضها أبناء الهرمل المظلومون من بني جلدتهم.
أقام أهل الهرمل وجوارها مديداً في حيواتهم متعايشين مع رتابتها الجميلة. لفحتهم الحرب، منذ 1975، قليلاً، فلم تربكهم كما أربكتنا، نحن سكان المدن وأهلها. بقوا يتزاوجون ويتناسلون ويتعلمون ويتخصصون ويتقاعدون ويعيشون ويموتون في مدينتهم. يؤرّقهم الغد، ولكن ليس كما يؤرّقنا. لم يكن مجهولاً تماماً بالنسبة اليهم. هم، بهذا المعنى، كانوا «سوريين»، أكثر اطمئناناً الى يومهم وغدهم. منذ سنتين، بات الغد مؤرّقاً، وبات الهرمليون «لبنانيين جدداً».
المصدر :
الماسة السورية
اكتب تعليق
كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة