نجزم بأن منظومة “أصدقاء” سورية التي اختتمت اجتماعها الاثنين في باريس بحضور 11 وزير خارجية بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية ووزير خارجيتها جون كيري قد أفلست، ولم يعد لديها أي جديد يمكن أن تقوله أو تفعله غير التكرار الممل لمواقفها وبياناتها ومؤتمراتها الصحافية السابقة.

فكيف يمكن أن نفسر الفقرة التي وردت في بيانها الختامي وتؤكد “على ضرورة مشاركة المعارضة السورية في مؤتمر “جنيف2″ الذي سيعقد في الثاني والعشرين من الشهر الحالي”، فأي معارضة التي يتحدثون عنها، ومن أي فصائل تتكون، ومن هو رئيسها، ومن تمثل على الأرض؟

ولعل ابرز التناقضات التي وردت في هذا الاجتماع وبيانه الختامي، أن السيد احمد الجربا رئيس الائتلاف الوطني “يتدلل” ويملي شروطه، ودون أن يقرر ما إذا كان ائتلافه “المهلهل” سيشارك في مؤتمر جنيف أم لا، وكأن الائتلاف دولة عظمى مستقلة في قراراتها وتحظى بتمثيل جميع فصائل المعارضة وتحمل تفويضا مفتوحا منها ومن الشعب السوري بحيث تكون مؤهلة وقادرة على إملاء شروطها وفرضها على الآخرين.

تناقض آخر لا يقل استعصاءا على الفهم من الأول، وهو اقتراح أمريكي لقي استحسانا روسيا جرت مناقشته في اللقاء الأهم بين كيري ونظيره الروسي سيرغي لافروف على هامش مؤتمر “الأصدقاء” وينص على وقف لإطلاق النار في سورية، وتبادل السجناء بين حكومة الرئيس بشار الأسد والمعارضة، على أن تكون البداية في منطقة حلب.

حكومة الرئيس بشار الأسد يمكن أن تلتزم، وتلزم، مقاتليها بوقف إطلاق النار، ولكن هل يستطيع كيري ووزراء الخارجية العرب الذين ينضوون تحت عباءته أن يفعلوا الشيء نفسه، أي أن يلزموا فصائل المعارضة المسلحة بهدنة وتبادل الأسرى؟

الإجابة قطعا بالنفي، فهل تقبل كتائب النصرة مثلا وقف إطلاق النار نتيجة اتفاق توصلت إليه الإدارة الأمريكية “المشركة” مع الحكومة الروسية “الملحدة”؟ وإذا افترضنا أن “النصرة” التي باتت “أكثر اعتدالا” في نظر العرب، قبلت الاتفاق، وهو ما نشك فيه، فهل تقبله الدولة الإسلامية في العراق والشام “داعش” وأميرها أبو بكر البغدادي؟

نحن لم نتحدث عن الجماعات المسلحة الأخرى مثل الجبهة الإسلامية وثوار الشام وجيش المجاهدين والجيش الحر على افتراض أن الدولتين العربيتين اللتين توفران المال والسلاح لدعمها، أي المملكة العربية السعودية وقطر، قادرتان على فرض أي اتفاق يتم التوافق عليه بين أمريكا وروسيا، وإلزام هذه الجبهات فيه أيضا.

الدولة الإسلامية “داعش” التي تفاءل الكثيرون، ونحن لسنا من بينهم، بقرب نهايتها بعد نجاح الهجوم الموحد لجبهات المعارضة المدعومة سعوديا وقطريا في الاستيلاء على معظم مواقعها في حلب وادلب والرقة، قلبت الموازين كلها، واستطاعت استعادة معظم ما خسرته من مواقع في هذه المدن في أقل من ثلاثة أيام وألحقت هزائم كبيرة بجيوش خصومها، وهي بالتالي مستعدة لتخريب أي اتفاق لوقف إطلاق النار لأنها غير ملزمة به ومن وقعه، وستستمر في مقاتلة النظام ومن يريدون اجتثاثها معا.

نقطة أخرى لا نستطيع إلا التوقف عندها وردت في المؤتمر الصحافي الذي عقده السيد الجربا في باريس الاثنين، وأكد فيه انه لا مكان للرئيس بشار الأسد وعائلته في مستقبل سورية، ولا دور له في المرحلة الانتقالية، فإذا كان الحال كذلك، فهذا يعني أن نتائج مؤتمر جنيف باتت محسومة مسبقا قبل أن يعقد، فلماذا يشارك فيه وفد السلطة برئاسة السيد وليد المعلم وزير الخارجية، من أجل تسليم السلطة على طبق من الخزف السويسري للسيد الجربا وائتلافه؟ ولماذا ينعقد المؤتمر في الأساس؟

مؤتمر جنيف الأول انعقد بدون حضور أي ممثل للنظام السوري، ولا للسلطات الإيرانية الداعمة له، وأصدر قرارات أكد فيها على نفي أي دور للنظام في المرحلة الانتقالية، فماذا تغير؟ وأي من هذه القرارات حظي بالتطبيق العملي؟ ثم كيف يفرضون هذه القرارات الأحادية الجانب على أطراف لم تصادق عليها ولم تحضر المؤتمر الأول كشرط لمشاركتها في المؤتمر الثاني أي إيران؟

النظام السوري لم يسقط مثلما كان يأمل المشاركون في مؤتمر جنيف الأول، وبالسرعة التي تمنوها، كما أن الفصائل الجهادية “التهمت” الجيش الحر أو معظمه الذي كانت تعول عليه أمريكا وتركيا وحلفاؤها العرب وباتت القوة الأخطر، والمجلس الوطني السوري الذي كان بمثابة الممثل الشرعي والوحيد للشعب السوري تحول إلى فريق هامشي في الائتلاف الوطني بعد تراجع دور قطر، وتقدم الدور السعودي في الأزمة السورية المتغيرة.

اتفاق وقف إطلاق النار الذي توافق عليه وزيرا خارجية أمريكا وروسيا هو “التطور” الأهم في نظرنا، والمؤشر لمرحلة جديدة لطبيعة الحلول السياسية المنتظرة للازمة السورية، أي الاعتراف الضمني ببقاء النظام لفترة متفق عليها، وتحويل طبيعة الأزمة من عسكرية إلى قضية إنسانية بحته، أي توفير مواد الإغاثة الأساسية للشعب السوري، وتبادل المعتقلين، بحيث تظل سورية مجزأة ومفتتة في ظل حكومة مركزية لا تسيطر على أطرافها، أي تثبيت الوضع الحالي، وفرص فشل هذا التوجه الجديد اكبر من فرص نجاحه.

أصدقاء سورية اتفقوا على عقد مؤتمر “جنيف2″ في موعده، وعدم تأجيله، ولكنه من المرجح أن يأتي حضورا هزيلا، ومن الدول نفسها التي حضرت المؤتمر الأول، ومن أجل ذر الرماد في العيون، انتظارا أو تمهيدا لعقد مؤتمر “جنيف3″ و”جنيف4″ وهكذا دواليك.

باختصار شديد، نقولها بكل ثقة، لن يتم التوصل لحل سياسي للازمة السورية إلا بعد وصول جميع الأطراف المتقاتلة إلى مرحلة الإنهاك التام، والشعب السوري في معظمه وصل إلى مرحلة اليأس والرغبة في الخلاص من الحرب والقتل والتشرد والجوع وجميع من أوصلوه إلى هذا المستنقع الدموي دون استثناء، ونجاح مخطط القضاء على جميع الجماعات الإسلامية الجهادية، معتدلة كانت أم متطرفة.

حتى الآن لم تتوفر أي من هذه العناصر، ولذلك ستستمر الحلقة الدموية وتتصاعد، قد تتغير بعض الوجوه، وتظهر قوى جديدة بأسماء جديدة، وتحالفات جديدة فالسيد الجربا سيواجه حتما مصير من سبقوه وانتهى دورهم مثل السادة معاذ الخطيب والدكتور برهان غليون وسليم ادريس وجورج صبرا، ورياض الأسعد والقائمة تطول، ومثلما أخذت الجبهة الإسلامية مكان الجيش الحر، وجيش الإسلام سيأتي من يزيحها من الطريق ليحل محلها، فبالأمس النصرة واليوم داعش، ولا نعلم من يأتي غدا. إنها لعبة كراسي دموية مرشحة للاستمرار لسنوات وربما لعقود قادمة.

ومرة أخرى نقول أن الشعب السوري هو الضحية، فأرقام الشهداء لم تعد مهمة، وصور الضحايا المؤلمة لم تعد تحرك إلا القلة للأسف.

  • فريق ماسة
  • 2014-01-12
  • 7170
  • من الأرشيف

منظومة أصدقاء سورية أفلست.. و"جنيف 2" تمهيدا لـ"جنيف 3".. وعودة "داعش" القوية تخلط الأوراق

نجزم بأن منظومة “أصدقاء” سورية التي اختتمت اجتماعها الاثنين في باريس بحضور 11 وزير خارجية بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية ووزير خارجيتها جون كيري قد أفلست، ولم يعد لديها أي جديد يمكن أن تقوله أو تفعله غير التكرار الممل لمواقفها وبياناتها ومؤتمراتها الصحافية السابقة. فكيف يمكن أن نفسر الفقرة التي وردت في بيانها الختامي وتؤكد “على ضرورة مشاركة المعارضة السورية في مؤتمر “جنيف2″ الذي سيعقد في الثاني والعشرين من الشهر الحالي”، فأي معارضة التي يتحدثون عنها، ومن أي فصائل تتكون، ومن هو رئيسها، ومن تمثل على الأرض؟ ولعل ابرز التناقضات التي وردت في هذا الاجتماع وبيانه الختامي، أن السيد احمد الجربا رئيس الائتلاف الوطني “يتدلل” ويملي شروطه، ودون أن يقرر ما إذا كان ائتلافه “المهلهل” سيشارك في مؤتمر جنيف أم لا، وكأن الائتلاف دولة عظمى مستقلة في قراراتها وتحظى بتمثيل جميع فصائل المعارضة وتحمل تفويضا مفتوحا منها ومن الشعب السوري بحيث تكون مؤهلة وقادرة على إملاء شروطها وفرضها على الآخرين. تناقض آخر لا يقل استعصاءا على الفهم من الأول، وهو اقتراح أمريكي لقي استحسانا روسيا جرت مناقشته في اللقاء الأهم بين كيري ونظيره الروسي سيرغي لافروف على هامش مؤتمر “الأصدقاء” وينص على وقف لإطلاق النار في سورية، وتبادل السجناء بين حكومة الرئيس بشار الأسد والمعارضة، على أن تكون البداية في منطقة حلب. حكومة الرئيس بشار الأسد يمكن أن تلتزم، وتلزم، مقاتليها بوقف إطلاق النار، ولكن هل يستطيع كيري ووزراء الخارجية العرب الذين ينضوون تحت عباءته أن يفعلوا الشيء نفسه، أي أن يلزموا فصائل المعارضة المسلحة بهدنة وتبادل الأسرى؟ الإجابة قطعا بالنفي، فهل تقبل كتائب النصرة مثلا وقف إطلاق النار نتيجة اتفاق توصلت إليه الإدارة الأمريكية “المشركة” مع الحكومة الروسية “الملحدة”؟ وإذا افترضنا أن “النصرة” التي باتت “أكثر اعتدالا” في نظر العرب، قبلت الاتفاق، وهو ما نشك فيه، فهل تقبله الدولة الإسلامية في العراق والشام “داعش” وأميرها أبو بكر البغدادي؟ نحن لم نتحدث عن الجماعات المسلحة الأخرى مثل الجبهة الإسلامية وثوار الشام وجيش المجاهدين والجيش الحر على افتراض أن الدولتين العربيتين اللتين توفران المال والسلاح لدعمها، أي المملكة العربية السعودية وقطر، قادرتان على فرض أي اتفاق يتم التوافق عليه بين أمريكا وروسيا، وإلزام هذه الجبهات فيه أيضا. الدولة الإسلامية “داعش” التي تفاءل الكثيرون، ونحن لسنا من بينهم، بقرب نهايتها بعد نجاح الهجوم الموحد لجبهات المعارضة المدعومة سعوديا وقطريا في الاستيلاء على معظم مواقعها في حلب وادلب والرقة، قلبت الموازين كلها، واستطاعت استعادة معظم ما خسرته من مواقع في هذه المدن في أقل من ثلاثة أيام وألحقت هزائم كبيرة بجيوش خصومها، وهي بالتالي مستعدة لتخريب أي اتفاق لوقف إطلاق النار لأنها غير ملزمة به ومن وقعه، وستستمر في مقاتلة النظام ومن يريدون اجتثاثها معا. نقطة أخرى لا نستطيع إلا التوقف عندها وردت في المؤتمر الصحافي الذي عقده السيد الجربا في باريس الاثنين، وأكد فيه انه لا مكان للرئيس بشار الأسد وعائلته في مستقبل سورية، ولا دور له في المرحلة الانتقالية، فإذا كان الحال كذلك، فهذا يعني أن نتائج مؤتمر جنيف باتت محسومة مسبقا قبل أن يعقد، فلماذا يشارك فيه وفد السلطة برئاسة السيد وليد المعلم وزير الخارجية، من أجل تسليم السلطة على طبق من الخزف السويسري للسيد الجربا وائتلافه؟ ولماذا ينعقد المؤتمر في الأساس؟ مؤتمر جنيف الأول انعقد بدون حضور أي ممثل للنظام السوري، ولا للسلطات الإيرانية الداعمة له، وأصدر قرارات أكد فيها على نفي أي دور للنظام في المرحلة الانتقالية، فماذا تغير؟ وأي من هذه القرارات حظي بالتطبيق العملي؟ ثم كيف يفرضون هذه القرارات الأحادية الجانب على أطراف لم تصادق عليها ولم تحضر المؤتمر الأول كشرط لمشاركتها في المؤتمر الثاني أي إيران؟ النظام السوري لم يسقط مثلما كان يأمل المشاركون في مؤتمر جنيف الأول، وبالسرعة التي تمنوها، كما أن الفصائل الجهادية “التهمت” الجيش الحر أو معظمه الذي كانت تعول عليه أمريكا وتركيا وحلفاؤها العرب وباتت القوة الأخطر، والمجلس الوطني السوري الذي كان بمثابة الممثل الشرعي والوحيد للشعب السوري تحول إلى فريق هامشي في الائتلاف الوطني بعد تراجع دور قطر، وتقدم الدور السعودي في الأزمة السورية المتغيرة. اتفاق وقف إطلاق النار الذي توافق عليه وزيرا خارجية أمريكا وروسيا هو “التطور” الأهم في نظرنا، والمؤشر لمرحلة جديدة لطبيعة الحلول السياسية المنتظرة للازمة السورية، أي الاعتراف الضمني ببقاء النظام لفترة متفق عليها، وتحويل طبيعة الأزمة من عسكرية إلى قضية إنسانية بحته، أي توفير مواد الإغاثة الأساسية للشعب السوري، وتبادل المعتقلين، بحيث تظل سورية مجزأة ومفتتة في ظل حكومة مركزية لا تسيطر على أطرافها، أي تثبيت الوضع الحالي، وفرص فشل هذا التوجه الجديد اكبر من فرص نجاحه. أصدقاء سورية اتفقوا على عقد مؤتمر “جنيف2″ في موعده، وعدم تأجيله، ولكنه من المرجح أن يأتي حضورا هزيلا، ومن الدول نفسها التي حضرت المؤتمر الأول، ومن أجل ذر الرماد في العيون، انتظارا أو تمهيدا لعقد مؤتمر “جنيف3″ و”جنيف4″ وهكذا دواليك. باختصار شديد، نقولها بكل ثقة، لن يتم التوصل لحل سياسي للازمة السورية إلا بعد وصول جميع الأطراف المتقاتلة إلى مرحلة الإنهاك التام، والشعب السوري في معظمه وصل إلى مرحلة اليأس والرغبة في الخلاص من الحرب والقتل والتشرد والجوع وجميع من أوصلوه إلى هذا المستنقع الدموي دون استثناء، ونجاح مخطط القضاء على جميع الجماعات الإسلامية الجهادية، معتدلة كانت أم متطرفة. حتى الآن لم تتوفر أي من هذه العناصر، ولذلك ستستمر الحلقة الدموية وتتصاعد، قد تتغير بعض الوجوه، وتظهر قوى جديدة بأسماء جديدة، وتحالفات جديدة فالسيد الجربا سيواجه حتما مصير من سبقوه وانتهى دورهم مثل السادة معاذ الخطيب والدكتور برهان غليون وسليم ادريس وجورج صبرا، ورياض الأسعد والقائمة تطول، ومثلما أخذت الجبهة الإسلامية مكان الجيش الحر، وجيش الإسلام سيأتي من يزيحها من الطريق ليحل محلها، فبالأمس النصرة واليوم داعش، ولا نعلم من يأتي غدا. إنها لعبة كراسي دموية مرشحة للاستمرار لسنوات وربما لعقود قادمة. ومرة أخرى نقول أن الشعب السوري هو الضحية، فأرقام الشهداء لم تعد مهمة، وصور الضحايا المؤلمة لم تعد تحرك إلا القلة للأسف.

المصدر : الرأي اليوم/ عبد الباري عطوان


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة