دليل ماسة
أكثر الروابط استخداما
يبدّد التجوال في شوارع طرابلس وصالوناتها المخاوف من انضمامها قريباً إلى قائمة المدن المبايعة لـ«داعش». لا المواجهة السابقة بين «القاعدة» وحزب الله في الضاحية والهرمل أيقظت خلايا «القاعدة» النائمة في المدينة، ولا انتصارات «داعش» ستفعل... قريباً على الأقل
يخيّل لمن يجالس أحد باعة الخضر عند دوار أبو علي في طرابلس أن «داعش» تشارك في المونديال؛ فبين كل بضع سيارات برازيلية وألمانية، تمر سيارة مزينة بالراية السوداء. وكما يجاري كثيرون لاعبيهم المفضلين في تسريحة الشعر والأوشام وغيرها، يجاري بعض شباب المدينة «الداعشيين» في تسريحات الشعر والنحف واللحى المنسية. تثير «داعش» حماسة كثيرين.
تغطي أخبار انتصاراتها على أخبار فتاويها وارتدادات تكفيرها وضبابية مرجعيتها. لا يكاد يسأل أحد الباعة زبائنه «شو، مع مين؟»، ويقصد في المونديال طبعاً، حتى يأتيه الجواب: «مع داعش». المدينة التي لم تتظاهر تأييداً لصدام حسين في حياته، تظاهرت معه بعد موته قبل سنوات، وعدّت قتله صفعة شيعية للطائفة السنية، ورفعت صوره، وحوّلته إلى شهيد. من يومها إلى يومنا، تتالت الصفعات. لا يفترضها صفعة من لا يعيش في «مرطبان الضغط المذهبيّ»، أما من هو مقتنع بأن السنيّ في البوسنة والهرسك أقرب إليه من العلويّ في جبل محسن فيعتبر قتل الرئيس العراقيّ السابق صفعة، وتقدم الحوثيين في اليمن صفعة، وذهاب أمير الكويت إلى إيران صفعة، وانتصار حزب الله على إسرائيل صفعة، والالتزام بمقتضيات الشراكة في لبنان صفعة، فيما تراكم المدن السورية المحررة من المسلحين الصفعات. وها هي «داعش» تنتقم.
مع «داعش» قلبياً أما عقلياً فلا أحد يريد المواجهة
نصف المزح جدٌّ طبعاً، إلا أن من يقولون اليوم في المدينة إنهم مع «داعش» يغلّبون النصف غير الجديّ. هم يؤيدون «داعش» قلبياً، أما عقلياً فهم غير مستعدين للمواجهة. ولا تكاد تسأل «الداعشيّ» المفترض عن اسمه أو لماذا هو حقاً مع «الدولة الاسلامية» ومن يقصد بـ«داعش» حتى ينتهي الحديث. لا أحد في المدينة يقول علانية وبشكل رسميّ ـــ حتى اليوم ـــ إنه مع «الدولة». لا تظاهرات سيارة تناصر التنظيم في المدينة، ولا خطباء ينادون للجهاد في جوامعها، ولا تحركات ميدانية تعكس المخاوف الشعبية أولاً، والأمنية ثانياً، من استخدام الشمال سعودياً مرة أخرى في تصفية الحسابات. حتى أولئك الذين سحروا الكاميرات في المرحلة السابقة بتنقلهم في الأزقة وفوق أسطح البنايات بعتادهم العسكريّ الكامل، ليسوا «دواعش»، لا بل عمدت «داعش»، فور سيطرتها على مدينة أو قرية، إلى تصفية المجموعات المماثلة أو سجنها، لخشيتها من أن يطعنوها في ظهرها بحكم ارتباطاتهم المالية والاستخبارية المتعددة، مع العلم بأن هؤلاء، أو ما يعرف بـ«مجموعات المحاور»، وهم ليسوا سلفيين أو تكفيريين، هم من دفعوا ثمن التسوية الطرابلسية الأخيرة. أما التكفيريون ومن يمكن أن يبنوا بأجسادهم جسور عبور لـ«الدولة» إلى لبنان أيضاً، فلا يزالون حيث هم: ينشطون بعيداً عن الأنظار، استعداداً لمعركة يقولون إن مكانها وموعدها لم يحددا بعد. وتتألف هذه المجموعة من ثلاثة مكونات رئيسية: أولاً، السلفيون الجهاديون اللبنانيون الذين خسروا معركة مع «فتح الإسلام»، لكنهم لم يخسروا ـــ وفقاً لحساباتهم ـــ الحرب، وهم أقوى في طرابلس مما كانوا عليه مع أحمد الأسير في صيدا، خصوصاً أنهم لم يضيّعوا وقتهم في معارك جانبية وإعلامية صغيرة. وهم نأوا بأنفسهم عن المواجهة السابقة للتكفيريين مع حزب الله. ثانياً، المقاتلون السوريون الذين أصيبوا في مراحل مختلفة وأدخلوا إلى لبنان للمعالجة، فاستقروا فيه. وتقدّر مصادر طبية عدد هؤلاء بأكثر من 500 مقاتل. ثالثاً، المقاتلون السوريون والعرب والأجانب الذين اندحروا قبل بضعة أشهر من قلعة الحصن وجوارها إلى طرابلس بمواكب شبه رسمية، ويقدّر عددهم بأكثر من مئتي مقاتل.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن الأجهزة الأمنية تعرف مكان هؤلاء لكنها تتجاهلهم بالكامل، مفترضة أنهم جزء من الأزمة السورية، وأن مصيرهم رهن تسوية أخرى تشمل الأفرقاء المتنازعين في سوريا لا في طرابلس كما حصل قبل بضعة أشهر. ويشير مصدر أمني طرابلسي، بوضوح شديد، إلى أن قمع هؤلاء ليس نزهة سهلة، فهم ليسوا مقاتلي المحاور الذين لا يزنّرون أنفسهم ولا يتطلعون إلى الشهادة، ولا هم مجموعة الأسير التي كانت تتحصن في مجمع سكني واحد. هؤلاء أكثر تنظيماً وتدريباً وخبرة قتالية بكثير، إضافة إلى أن المدينة باكتظاظها السكاني وأزقتها الضيقة تلعب لمصلحتهم، في وقت تتعاظم فيه الخشية الأمنية السورية من إقدام هؤلاء، في لحظة إقليمية ما، على السيطرة العسكرية ـــ كما فعلت «داعش» في عدة مدن سورية وعراقية ـــ على طرابلس والمنية والضنية وعكار، في سياق المحاولات المستمرة للإطباق على حمص من عدة جهات. وفي حسابات المصدر السوري أن الديموغرافيا الشمالية مشابهة كثيراً لميادين «داعش» المفضلة، فضلاً عن أن القوى الشعبية والسياسية الرادعة معطلة بالكامل، إن لم تكن مؤيدة.
كل ما سبق افتراضات أمنية لا تظهر خيالاتها على طول الطريق من سوق الأحد إلى قلعة طرابلس، مروراً بباب التبانة دائماً. تمتلئ الأرصفة بألوان الصيف هنا: ثماراً وصخباً وألبسة. لا شيء يوحي بعودة سريعة للأوضاع إلى ما كانت عليه قبل بضعة أشهر. ولا شيء في وجوه التجار والأهالي، عشية شهر رمضان، يوحي برغبة ولو صغيرة بعودة التوتر السابق.
ومن المشاهدات إلى التحليل السياسي. في صيدليته الطرابلسية، يقول المسؤول السابق عن الملف الفلسطيني في السراي الحكومي خلدون الشريف إن قرار الحفاظ على استقرار لبنان لا يزال قائماً. في جعبة الرجل ثلاثة أسباب تقوده إلى هذا الاستنتاج: أولاً، استمرار التنسيق بين مختلف الأجهزة الأمنية المحلية والدولية لمحاصرة الخلايا الإرهابية فور تحركها. ثانياً، اعتقاد السعودية بأنها حققت انتصاراً كبيراً بتشكيل الحكومة الحالية لن تغامر بخسارته. ثالثاً، حرص حزب الله على قطع طريق الراغبين بإلهائه في المستنقع اللبناني. يذكّر الشريف بقول الرئيس العراقي السابق صدام حسين إنه يدافع بحربه مع إيران عن بوابة العرب الشرقية، ليشير إلى أن «الأزمة السنية ـــ الشيعية بدأت في العراق إثر خلع الأميركيين هذه البوابة». هناك بدأت المشكلة، وهناك سيبدأ الحل، سواء كان تسوية سياسية أو تقسيماً، يقول الشريف، مع العلم بأن الأمنيين يكررون، منذ معركة الجيش و«فتح الإسلام»، القول إن الجيل اللبنانيّ الأول من التكفيريين نما فكرياً في العراق حين أخذ لقتال الأميركيين، إذا به يعود إلى قراه في عكار والضنية، قبل وصول البعثات الوهابية التعليمية.
وفي السياق الخلدونيّ المتفائل نفسه، يشير أحد نواب المدينة إلى نجاح اللبنانيين في الحفاظ على نسبة كبيرة من استقرارهم رغم حدة الأزمة السورية وقربها الجغرافي وتأثيرها السياسي والاقتصادي وتدخل بعضهم المباشر فيها، فيما الأزمة العراقية اليوم أبعد، ولا تأثير لبنانياً مباشراً على مجرياتها أياً كانت نتيجة الفوضى المحلية. ويلفت النائب المستقبليّ غير المنضبط إلى أن جدول الأعمال العراقيّ هو الضاغط اليوم، فيما حضور لبنان يقتصر على جدول الأعمال السوريّ المنسي حتى موعد لاحق، في وقت لم يخرج فيه تيار المستقبل بعد، بحسب المصدر نفسه، من تداعيات المرحلة السابقة التي شتّتت نفوذه: مجموعة خلف «قادة المحاور»، ومجموعة خلف نائب «محقون»، ومجموعة خلف شيخ مقاتل، ومجموعات سئمت من غياب المرجعية المستقبلية. ويذكر في هذا السياق أن الوزير أشرف ريفي كان يلعب الدور الرئيسيّ في المرحلة السابقة في توتير المدينة وتكبير رؤوس قادة محاورها، فيما هو يلتزم اليوم بمقتضيات بذلته الرسمية الكلامية، ونادراً ما ينسى في بياناته التنويه بجهود الرئيس سعد الحريري بعدما كان ينظر إلى نفسه كمرجعية موازية لمرجعية الحريري. وهو حقق، بفعل الضرب السابق للاستقرار، أقصى ما يمكن أن يحققه، لذا يحرص اليوم على حماية مكتسباته لا تبديدها في جولة عنف جديدة غير مضمونة النتيجة.
لن تنفجر طرابلس قريباً، لا شيء، اليوم أقله، يوحي بتوقها إلى الانضمام إلى «دولة الإسلام في العراق والشام». المدينة خبيرة بالحب عن بعد: اسألوا الثورة الجزائرية والثورة الفلسطينية والمقاومة. يمكن «الداعشيين» أن يتريثوا أكثر فأكثر. يمكن الإعلان عن ولاية طرابلس أن ينتظر قليلاً بعد، لا أحد في الداخل والخارج يستعجله.
المصدر :
الأحبار/ غسان سعود
اكتب تعليق
كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة