كيف تخوض مصر حرب تحرير قرارها السياسي؟ ما هي المعطيات المؤثرة في إمكانية تحقيق هذا الهدف؟ وأي تهديدات تلوح في أفق أمنها القومي؟ وكيف تنعكس قرارات الرئيس عبد الفتاح السيسي في الداخل والخارج؟ وأين تقف مصر من التحالفات الدولية التي بدأت تتضح معالمها أكثر فأكثر؟ وما الذي تنتظره القيادة المصرية من التحول الذي تدفع باتجاهه؟

منذ الثالث من تموز-يوليو 2013 والجدل لا يتوقف بين المتابعين لشؤون الشرق الأوسط حول توصيف الرئيس عبد الفتاح السيسي ونظام حكمه. فبينما يرى فيه كثيرون عودة إلى نموذج "القائد الرمز"، يصوره آخرون على أنه العسكري الذي ألغى نتائج عملية انتخابية ديموقراطية وأعاد "حكم العسكر".

ومن خلال متابعة أحداث السنوات الأربع الأخيرة في المنطقة، يمكن القول إن ثورة 30 حزيران-يونيو 2013 في مصر شكلت الحدث الأبرز الذي غير اتجاهات المواقف الدولية بخصوص قضايا الشرق الأوسط، خصوصاً أن هذا الحدث أدى إلى إسقاط مسار سيطرة الإخوان المسلمين على نظم الحكم في الدول المعنية بما سمي يوماً "الربيع العربي". ومع تدحرج الأحداث، تبين أن هذا المسار الذي أسقط في شوارع مصر كان مقدراً له من قبل الولايات المتحدة الأميركية أن يتصاعد ليشكل قاعدة التحالف الجديدة بين القوة الأعظم وحكام ما بعد الربيع، وهو ما نشرته وزيرة الخارجية الأميركية السابقة هيلاري كلينتون ضمن مذكراتها في كتاب "خيارات صعبة"، حيث تحسّرت على عدم اكتمال مشروع حكم الإخوان في المنطقة العربية قائلةً في معرض حديثها عن ثورة 30 يونيو "كل شيء كُسر أمام أعيننا من دون سابق إنذار. شيء مهول حدث في مصر! لقد فشل مشروعنا في مصر عقب سقوط الإخوان المسلمين".

وسريعاً، بدأ التحول في سياسة مصر الخارجية يترجم، وكان ذلك قبل وصول السيسي إلى الرئاسة في الانتخابات الرئاسية الأخيرة. فبعد عزل الرئيس السابق محمد مرسي تحسنت العلاقات المصرية-الروسية بصورةٍ لافتة، وتبادل الطرفان الزيارات الرسمية على أعلى المستويات، افتتحت بزيارة وزيري الخارجية والدفاع الروسيين سيرغي لافروف وسيرغي شويغو إلى القاهرة في 14 تشرين الثاني-نوفمبر 2013 إلى القاهرة، واستكملها السيسي (كان حينها وزيراً للدفاع) نفسه في منتصف شباط 2014 بزيارة موسكو التي حصل فيها على موقف استثنائي من الرئيس فلاديمير بوتين يدعم ترشيحه للرئاسة المصرية، ثم أتبعها بزيارةٍ ثانية في منتصف آب من العام الحالي، حيث استقبل في سوتشي استقبال الحلفاء المقربين.

30 يونيو: الجيش يستشعر الخطر الكبير

ارتبطت الأسباب الداخلية بتلك الخارجية لتنتج مجتمعةً البيئة المؤاتية لثورة المصريين على حكم مرسي. في الداخل ساهم في سقوط الإخوان تردي الواقع الإقتصادي وعدم وضوح الرؤية التي تنتج حلولاً عند القيادة، خصوصاً الاستمرار بطلب القروض من صندوق النقد الدولي، وبالتالي السير في طريق سلفه حسني مبارك في ما يخص الارتباط الاقتصادي بالمنظومة التي توجهها وتتحكم بإدارتها الولايات المتحدة الأميركية، يضاف إلى ذلك التراجع الكبير في الحريات العامة، ومحاولة التيارات الإسلامية المتشددة فرض نسق حياة مختلف عما اعتاده المصريون، وعما أرادوه لغدهم أيضاً.

 وتجاه الخارج، شكل خطاب مرسي في استاد القاهرة في الذكرى 39 لنصر أكتوبر محطةً مفصلية في قرار المؤسسة العسكرية ومعها قسم كبير من الشعب بأنه حان الوقت لإنهاء هذه المرحلة الجاذبة للأخطار على أمن مصر، فقد غيّب رئيس مصر في ذلك الخطاب الوجه العربي لنصر أكتوبر، ومشاركة دول عربية على رأسها سوريا في هذه الحرب، وزاد على ذلك مواقف داعمة للمجموعات المسلحة في سوريا، وبالتالي فقد غيّب دور مصر في قيادة الموقف العربي المقاوم لإسرائيل، إضافةً إلى مخاطبة رئيسها "بالصديق العزيز".

 ومع ظهور مصر بصورةٍ ضعيفة في مواجهة الأخطار القادمة من عمق أفريقيا، والتي تشكل تهديداً حيوياً لأمنها القومي ، اكتملت عناصر الخوف لدى الشارع المصري ومن خلفه الجيش من خطورة ما يحدث، ومن اتجاهات الأمور، فضلاً عن استفزازات متكررة للكرامة الوطنية المصرية تمثلت بالحديث عن عروض لاستثمار الأهرامات وقناة السويس، الأمر الذي أدى إلى تكثيف النقمة الشعبية على الرئيس، خصوصاً مع تكرار ظهوره بصورةٍ ضعيفة في لقاءاته الدولية.

 مصر تخلط أوراق الشرق الأوسط

قبل دخول السيسي قصر الرئاسة عبر الانتخابات، بدا واضحاً أن شيئاً كبيراً قد تغير في تعاطي مصر مع محيطها ومع العالم. لقد تغيرت بسرعة لهجة الخارجية المصرية حيال القضايا المشتعلة في المنطقة، وبدأت شخصية الدولة تظهر بشكلٍ متصاعدٍ في الشكل والمضمون معاً. ومع نجاحه في الانتخابات، وبدأ الحديث عن عودة العلاقات المصرية-الروسية إلى التعافي يتعزز بالوقائع والتصريحات والاتفاقات والتناغم المتبادل في المواقف، خصوصاً في ما يخص لهجة التعاطي مع الأميركيين، مع فوارق بدرجة حدة المواقف، حيث حرصت مصر على ألا توفر فرصة لتظهر أنها تتعامل مع الولايات المتحدة تعامل دولة-دولة.

 وفي المقابل، تم تعزيز التعاون مع روسيا في "كل المجالات"، وهو ما صرح به الناطق باسم الرئاسة المصرية قبيل زيارة السيسي إلى موسكو في آب الماضي، حيث قال إن الزيارة وبحث التعاون الثنائي يتم "في ضوء ما سبق أن أعلنه الرئيس السيسي من حرص مصر على توسيع علاقاتها الدولية والانتقال بها إلى آفاق أرحب ومستوى أكثر تميزاً مع كل دول العالم الصديقة والمحبة للسلام، والتي تتشارك مع مصر قيم عدم التدخل في الشؤون الداخلية، واحترام كرامة الشعوب وإرادتها الوطنية الحرة"، وفي الجملة الأخيرة بيت القصيد.

 إذاً، تحولت مصر من الاعتماد الكلي على ما تقدمه الولايات المتحدة من معونات مشروطة بمواقف مناسبة لها في السياسة الخارجية تبدأ بفلسطين ولا تنتهي عند حدود سوريا، إلى البحث عن علاقات مع كل الدول، وخصوصاً تلك التي تتشارك معها في قيم عدم التدخل في الشؤون الداخلية. ولا يعني ذلك بأية حال قطع العلاقة القديمة مع واشنطن، أو استجلاب عدائها، إنما سعياً لاستعادة التوازن في العلاقات الدولية لمصر، وخروجها من موقع التابع إلى رحاب الانفتاح على تعاون يحقق مصالح متبادلة.

 واستطاعت مصر بقيادة السيسي أن تستند إلى علاقات جيدة مع دول الخليج العربي التي تناهض الإخوان المسلمين، والتي تتخوف من وصول خطرهم إليها كالسعودية والإمارات العربية المتحدة، وقد ساهمت هذه العلاقة في تثبيت الوضع الإقتصادي في مصر من جهة، وطمأنة الغرب بأن توجهات الإدارة المصرية الجديدة لا تستهدف التخلي عن العلاقة بحلفائها في المنطقة، إنما توسيع دائرة العلاقات الدولية لمصر.

 دول تواجه المخاطر نفسها

مع بدء تراخي القبضة الأميركية على النظام الدولي في السنوات الأخيرة، وانكشاف هشاشة هذا النظام أمام الأزمات الكبرى، تخوض  دول عدة  اليوم حرب تحرير قرارها السياسي من يد واشنطن، لتبحث لنفسها عن شروط أفضل تمكنها من تحقيق مصالحها إلى جانب حلفاء جدد، فيما تستمر دول أخرى في الحرب نفسها حيث كانت قد بدأتها في فترةٍ سابقة.

 وتستند هذه الدول عموماً إلى اندفاعة روسية نحو دور عالمي جديد، وهي الدولة التي خرجت مبكراً من مرحلة الرضوخ للغرب.

 وفي المنطقة العربية، تبدو كل من سوريا والجزائر والعراق ومعها مصر، في موقع الباحث عن استعادة –أو الحفاظ على- قدرته في مواجهة الإرادة الأميركية بإرادة وطنية. وتحوز هذه الدول على أهمية استراتيجية فائقة بالنسبة للقوى الكبرى، حيث لكلٍ من سوريا ومصر والعراق مواقع جغرافية هامة استراتيجياً، وتاريخاً ضاربة في عمق التاريخ، إضافة إلى وجود مخزونات مهمة من الغاز، وحدود مباشرة أو قريبة من فلسطين المحتلة وبالتالي دور مهم في الصراع العربي-الإسرائيلي، إضافة إلى التاريخ الحضاري والسياسي الغني، ولديها   حجم سكاني مهم (خصوصاً مصر)، فيما تملك الجزائر الكثير من هذه الخصائص أيضاً، كما أن هذه الدول تعتبر مركز ثقل القرار العربي وترتبط  بعلاقة متصاعدة باستمرار مع روسيا.

 وللمفارقة التي تتضمن الكثير من المعاني، فإن واشنطن المتضرر الأكبر من سعي هذه الدول إلى البحث عن مصالحها المستقلة، لا تشكل الخطر العسكري المباشر عليها، وهي بالطبع لا تقف مكتوفة الأيدي أمام تطور علاقاتها مع روسيا، وعليه فلا بد من وجود أطرافٍ أخرى تؤدي وظيفة تهديد تلك الدول الساعية إلى التغريد بعيداً من واشنطن. وعند التعمق في المخاطر التي تواجهها الجزائر ودمشق وبغداد والقاهرة، يتضح أن العدو المباشر اليوم هو الإرهاب، المتمثل بحركاتٍ إسلامية متشددة جعلت في أعلى أولوياتها ضرب مقومات الدول لتطبيق "شرع الله"، وفي ذلك مؤشر مريب يدعو إلى التفكير ملياً.

 ففي سوريا، لا يمكن حصر أعداد التنظيمات الإسلامية التي تقاتل الدولة، والحال نفسها في العراق، وفي مصر فإن التنظيمات الإرهابية في سيناء وغيرها تتولى مهمة ضرب الجيش ومؤسسات الدولة في كل فرصة، وفي الجزائر يخوض الجيش حملة عسكرية ضد "جند الخلافة" الذين أعلنوا انضمامهم لـ"داعش".

 وتواجه هذه الدول ومعها روسيا مخططات رامية إلى تقسيمها وإشغالها في محاولة الدفاع عن وحدتها الترابية في وجه الإختراقات الداخلية التي تتخفى خلف مطالب الديموقراطية وحقوق الإنسان، على قاعدة تقول إن الدول التي لا تسير في الركب الأميركي هي دول تحتاج بالضرورة إلى الديموقراطية، ويفترض ذلك تصنيف الفئات الإجتماعية، وتقسيم الحقوق الطبيعية الخاصة بالمواطنة إلى حقوق فئوية تطالب بها كل فئة على حدى، وبالتالي تسهل عملية الإختراق من الخارج.

 الدولة تبحث عن "القائد الرمز"

تغري ظاهرة فلاديمير بوتين الشعوب العربية في الشرق الأوسط، والتي تعاني من تفكك بنية الدولة من جهة، وضعف مسؤوليها أمام إرادة القوى الكبرى من جهة أخرى، وتتطلع إلى قائدٍ يعيد إلى أوطانها الإحساس الوطني الذي قارب الاندثار في أجواء الانقسامات الفئوية التي يتم تحفيذها من الخارج. ومن بين هؤلاء، يتطلع المصريون الذين أتعبتهم سنوات حكم مبارك وما تلاها من تخبط، إلى قائد يشعرون من خلاله بالكرامة الوطنية التي يستذكرونها كل عام في ذكرى نصر أكتوبر.

 يتلمس السيسي هذه الحاجة المعنوية الماسة عند شعبه، ولا يفوت فرصة لإظهار قدرته على لعب دور القائد القوي الذي تحتاجه البلاد ليعيد إليها دورها المفقود في العقود الأخيرة. يستخدم في سبيل ذلك مزيجاً -يبدو ناجحاً- من الخطاب العاطفي والحلول العقلانية لمشكلات الدولة، ويتوسل نبرةً هادئة يعرف أنها تدخل أسماع المصريين وتقربه منهم، من دون ان ينسى رفع هذه النبرة في وقت الحديث عن قضاياً الشعور القومي ومحاربة الإرهاب ومواجهة الفساد وغيرها من القضايا التي يطرب المصريون لسماعها. كما اعتنى السيسي بصورته كواحد من الشعب، مكرساً فكرة أنه ابن حي الجمالية الشعبي في القاهرة، وابن البلد.

بعد انتخابه رئيساً، تخلى السيسي عن غموضه وبعده عن وسائل الإعلام، كما كان الحال عندما شغل مناصب عسكرية سابقة، وروج له في فترة حكم الإخوان أنه الرجل المتدين في المجلس العسكري، وهي صفة تعني المصريين كثيراً، كما أنها ساهمت إلى حدٍ بعيد في تجنيبه محاربة الإخوان له.

ويدرك الرجل قدرة الشارع المصري على التغيير، والتي أثبتها في 30 يونيو يوم عزل سلفه مرسي، لذلك فإنه واظب على طلب نزول الناس إلى الشوارع لتفويضه قبل كل قرارٍ حاسم اتخذه، كما حصل حين طلب تفويضه بمكافحة الإرهاب. ويحاول أن يغزي الفكرة السائدة في مصر وهي أن السيسي هو عبد الناصر الجديد، والذي أتى في الوقت المناسب لينقذ مصر.

وقد برهن السيسي على أنه رجل قوي فعلًا، أرغم الولايات المتحدة على مراجعة مواقفها من ثورة 30 يونيو، وواجه التدخلات التركية في شؤون بلاده بأقسى الطرق الديبلوماسية، الأمر الذي مكنه من استخدام القوة في الداخل ضد الإخوان في أكثر من مناسبة، حيث فض اعتصامات الإخوان، وأظهر حزماً في التعاطي مع مسألة الإعلام الذي يتهم اليوم بأنه موالٍ لسياساته بشكلٍ عام.

وبعد أقل من سنة على انتخابه، تحول السيسي إلى رمز للمصريين، يعلقون صوره في كل مكان من البلاد، وتطبع على الملابس والهدايا التذكارية، ويعاملونه معاملة الروس لرئيسهم بوتين.

أكتوبر 2012.. أكتوبر 2014

كان احتفال مصر بالذكرى 41 لنصر أكتوبر مميزاً على أكثر من صعيد، فهو من جهة أعاد التركيز على البعد العربي لهذا النصر، وذلك من خلال إظهار أعلام الدول التي شاركت في حرب أكتوبر عام 1973، ومن بينها سوريا بجيشها وعلمها، ومن جهة اخرى من خلال تضمنه لمعدات عسكرية وأسلحة جديدة تترجم المسار الذي سبق الحديث عنه حول التعاون العسكري بين مصر وروسيا.

في الجانب الأول، وبينما كان خطاب مرسي في الذكرى 39 في استاد القاهرة عام 2012 يندرج تحت عنوان "دعم الثورة السورية"،  فإن إحياء الذكرى 41 للحرب هذا العام يندرج ضمن سياقٍ مختلف تماماً، يتم خلاله التشديد على دور الجيوش العربية وشراكتها في النصر، كما أن حال العلاقات بين الدولتين اختلفت اختلافاً كبيراً خلال هاتين السنتين.

وفي الجانب الثاني، فإن مصر لم تعد تعتمد حصراً على التسليح الأميركي، بل ان العرض العسكري هذا العام تضمن ظهور أسلحة متطورة لم تعلن مصر عن امتلاكها سابقاً، مثل Buk-M2  وTor-M2، والتي تنتجها شركة "Almaz-Antey" الروسية للتصنيع العسكري، وهي صواريخ دفاعية أرض-جو تنتمي لعائلة الصواريخ الروسية (SAM)، وهي قادرة على اعتراض أهداف عديدة في آن واحد، مثل الطائرات المقاتلة والصواريخ الموجهة وغيرها، وتمتلك هذا النوع من الصواريخ كل من روسيا، أذربيجان، بيلاروسيا، الصين، قبرص، اليونان، إيران، أوكرانيا، فنزويلا ومصر، وقد عرض هذا الطراز في خلال العام الحالي في معرض 2014 DEFEXPO في الهند.

ومع أن غالبية الشاحنات التي مرت خلال العرض روسية التصنيع، غير أن دبابات Abrams الأميركية كانت حاضرة أيضاً، وهي الدبابات التي كانت مصر قد طلبتها عام 2011. وكان لافتاً للمختصين عدم الإشارة إلى الأسلحة الأميركية خلال العرض.

وفي سياق التعاون العسكري النوعي بين الطرفين، ينوي وفد يمثل شركة "ميغ" الروسية برئاسة مديرها العام سيرغي كوروتكوف إجراء محادثات مع الجانب المصري هذا الشهر بشأن توريد مقاتلات "ميغ – 35" إلى مصر. حيث صرح كوروتكوف لوكالة "إيتار – تاس" الروسية قائلا:"سبق لهم (المصريون) أن اختبروا طائراتنا. ونأمل بأن نتلقى دعوة لإجراء محادثات تقنية بهذا الشأن"، وكان وزير الدفاع المصري أكد في مطلع العام الجاري أن كلاً من المملكة العربية السعودية ودولة الامارات العربية المتحدة ستقومان بتمويل شراء مصر للأسلحة الروسية، وقال آنذاك إن روسيا ستزود مصر في إطار الاتفاقات المتوصل إليها بـ 24 مقاتلة من طراز "ميغ – 29".

ولا شك أن هذه المعطيات وغيرها تساعد مصر في معركة استعادة العافية بعد الأحداث التي شهدتها السنوات الأخيرة، وتعزز قدرات الدولة في مواجهة الأخطار الخارجية، ولكن جملة من المخاطر تبقى حاضرة في أذهان القادة المصريين، أهمها التنظيمات الإرهابية التي تعمل على زعزعة الاستقرار من الداخل.

تهديدات الأمن القومي المصري وأثمان تحرير القرار

تبقى إسرائيل التهديد الأساسي والقائم دائماً لأمن مصر القومي، وهي إن توارت خلف الأخطار المستجدة، فلا بد أنها متحفزة دوماً نحو ابتكار السبل الكفيلة بإنهاك القاهرة واستنزاف قدراتها، كما أنها لم تتوقف يوماً عن اعتبار مصر عدواً خطراً تضرب له الحسابات العسكرية الجدية، وتحاك ضده المؤامرات السياسية والاقتصادية وغيرها.

ومع تصاعد قدرة الشعب المصري على اختيار قيادته منذ ثورة 25 يناير، فإن إسرائيل تجد نفسها أمام مسار سيفضي بالضرورة إلى إعادة تصويب البوصلة العسكرية المصرية باتجاهها عاجلاً أم آجلاً.

يضاف إلى التهديد الاسرائيلي الدائم، فإن مصر تواجهة مجموعات إرهابية على أرضها وعلى حدودها من جهتي الشرق والغرب، ففي سيناء يخوض الجيش المصري بشكلٍ متكرر معارك مع التنظيمات التي تتمركز بين مصر وإسرائيل، وتوجه أسلحتها ناحية مصر، وهي معركة غير سهلة نظراً لظروف ميدانية وسياسية عديدة. وفي الغرب، تشكل حالة الفوضى العبثية التي تشهدها ليبيا تهديداً حقيقياً لأمن مصر، الأمر الذي تتنبه إليه القاهرة وتتعامل معه بجدية تامة، تساندها الجزائر من الجهة الأخرى للحدود الليبية. ولا شك في أن هذه المخاطر من الجهتين ليست وليدة مجتمعات هذه الدول، بل إن استهداف مصر مطلب لسياسات خارجية للدول المستفيدة مما يحصل.

من الجنوب أيضاً تشكل المشروعات المائية الضخمة على نهر النيل وروافده خطراً كبيراً على الامن القومي المصري، خصوصاً وأن مصر تعتمد على مياه النيل منذ وجدت، وحاجتها إلى نسبة كبيرة من مياهه هي حاجة حيوية تستأهل أن توظف جيشها وديبلوماسيتها وعلاقاتها في سبيل تلبية هذه الحاجة، علماً أن المسألة هناك لا تقتصر على خلاف تحاصص مياه النهر الأطول في العالم، بل إن أصابع عدوانية تتحرك في دول حوض النيل، وتوجه بعض الدول باتجاه التضييق على مصر وخنق مواردها المائية، في سبيل إضعافها ومنعها من الصعود مجدداً.

في الداخل، يضاف إلى انعكاسات المخاطر سالفة الذكر، الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي يعاني منها المواطن المصري، وعدم قدرة الدولة حتى اللحظة على تأمين فرص عمل كافية للشباب، فضلاً عن مشكلة تأمين الغذاء لحوالى 90 مليون نسمة.

 

يدرك السيسي أن نجاح مشروعه للدولة رهن بإيجاد الحلول المناسبة لمواجهة هذه المخاطر، ويحاول من خلال فتح آفاق العلاقات الدولية أمام بلاده جذب الاستثمارات والحصول على مساعدة دول الخليج، إضافة إلى تطوير البنى التحتية للدولة التي تعتمد كثيراً على عائدات الترانزيت بسبب موقعها الجغرافي، وفي سبيل ذلك تم استحداث قناة جديدة في السويس، وأعلنت مصر إعادة البحث في اتفاقية "الرورو" التي وقعها مرسي مع الأتراك لإعفاء بضائعهم من المرور عبر السويس، وغيرها من الإجراءات التي تميزت بالجرأة في طرح الحقائق الصعبة أمام المواطنين، ودعوتهم إلى المساهمة في إنقاذ البلاد من خلال سداد قيمة الخدمات التي يحصلون عليها من الدولة.

كان يمكن لهذه النقطة الأخيرة أن تفجر موجة من الاحتجاجات الشعبية ضد الحكم الفتي، ولكن التركيز على التعبئة الوطنية ورفع الشعور القومي عند المواطنين يثمر حتى الآن في تعميق الإحساس لدى المصريين بأن مشروعاً للوطن يأخذ سكته نحو النجاح في ما لو اتخذوا الإجراءات اللازمة واستعانوا بالصبر حتى تبدأ النتائج الإيجابية بالظهور.

آفاق التحول المصري وفرص نجاحه

لطالما لعب الموقع الجغرافي دوراً أساسياً في إعطاء مصر أفضلية كبرى بين دول المنطقة، ترجمت دوراً مركزياً في التأثير في الأحداث التي شهدتها عبر السنوات، خصوصاً عندما يندمج هذا العامل مع عدد السكان الذي بات يقارب ال  90   مليوناً، ما يجعل من مصر أكبر دول المنطقة من حيث السكان، وأفضلها موقعاً، مع إطلالة واسعة على البحر المتوسط ومثلها على البحر الأحمر، وكحارسٍ للمر الإجباري بينهما. ويعتبر الشكل الهندسي لخارطة مصر وحجمها نموذجياً من ناحية الجيوبوليتيك، حيث تتقارب مسافات الطول والعرض، وتتكئ الدولة بشكلٍ شبه مربع بين قارتين كبيرتين.

ويلعب البعد الحضاري الممتد إلى عمق 7000 سنة في التاريخ دوراً في تشكيل الوعي العام للمجتمع المصري، ما ينعكس عملياً موارد بشرية تفوق بأهميتها المعالم الأثرية التي تمتلك البلاد منها ما يدهش العالم.

في ذلك كله، وفي غيره من المعطيات الثابتة والمتغيرة، قاعدة للحديث عن دور مستقبلي لمصر فيما لو توافر عنصر الإرادة الوطنية -ونفترض في هذا السياق أنه متوافر في هذه اللحظة من تاريخها- مدفوعة بقرار سياسي لاستعادة الدور الذي لطالما لعبته "أم الدنيا".

وتزداد فرص مصر في العودة إلى حاجة الدول العربية المحيطة إلى هذا الدور، خصوصاً بعد أن أثبتت القاهرة قدرتها على الصعود بالأفكار السياسية في العالم العربي، كما في إسقاطها، فضلاً عن قدرة مصر على حسم المواجهات الكبرى مع الأعداء عندما تقرر دخولها.

على الساحة الدولية، يعزز من فرص نهوض مصر تقاربها المستمر والمتنامي من الدول الصاعدة، وفي طليعتها روسيا، وهي دول يرجح أن تلعب دوراً مهماً في إعادة تشكيل النظام الدولي، وإعادة رسم آليات اقتصادية جديدة له، خصوصاً بعد أن تكتمل منظومتها الاقتصادية (إحدى إشارات ذلك إنشاء مصرف بريكس)، وملل هذه الدول من السياسات الأميركية التي فرضت بالقوة أو بالابتزاز على الدول الأخرى.

وعلى الساحة العربية والإقليمية، تزداد فرص نجاح مصر في استعادة قرارها المستقل كلما نجحت الدول التي تخوض المعركة نفسها في المعارك التي تخوضها، فنجاح محور المقاومة في مواجهة إسرائيل، واستعادة العراق لحمته الداخلية ووحدة أراضيه، وطرده للإرهاب، وعودة سوريا معافاة بعد معركتها القاسية في وجه الإرهاب؛ كلها بوادر تفضي عند اكتمالها إلى تعزيز فرص مصر في استكمال مشروعها السيادي الذي نفترض أنها بدأته.

ولكن الشرط الأساسي للنجاح يبقى ثبات الإرادة الداخلية ووضوح الرؤية عند القيادة المصرية، وبناء على ذلك، يكون السيسي إما "ناصر" جديد، أو مبارك آخر.

  • فريق ماسة
  • 2014-10-10
  • 11210
  • من الأرشيف

أخطر حروب المنطقة.. الفرص والمخاطر لحرب تحرير القرار.. أم الدنيا نموذجاً

كيف تخوض مصر حرب تحرير قرارها السياسي؟ ما هي المعطيات المؤثرة في إمكانية تحقيق هذا الهدف؟ وأي تهديدات تلوح في أفق أمنها القومي؟ وكيف تنعكس قرارات الرئيس عبد الفتاح السيسي في الداخل والخارج؟ وأين تقف مصر من التحالفات الدولية التي بدأت تتضح معالمها أكثر فأكثر؟ وما الذي تنتظره القيادة المصرية من التحول الذي تدفع باتجاهه؟ منذ الثالث من تموز-يوليو 2013 والجدل لا يتوقف بين المتابعين لشؤون الشرق الأوسط حول توصيف الرئيس عبد الفتاح السيسي ونظام حكمه. فبينما يرى فيه كثيرون عودة إلى نموذج "القائد الرمز"، يصوره آخرون على أنه العسكري الذي ألغى نتائج عملية انتخابية ديموقراطية وأعاد "حكم العسكر". ومن خلال متابعة أحداث السنوات الأربع الأخيرة في المنطقة، يمكن القول إن ثورة 30 حزيران-يونيو 2013 في مصر شكلت الحدث الأبرز الذي غير اتجاهات المواقف الدولية بخصوص قضايا الشرق الأوسط، خصوصاً أن هذا الحدث أدى إلى إسقاط مسار سيطرة الإخوان المسلمين على نظم الحكم في الدول المعنية بما سمي يوماً "الربيع العربي". ومع تدحرج الأحداث، تبين أن هذا المسار الذي أسقط في شوارع مصر كان مقدراً له من قبل الولايات المتحدة الأميركية أن يتصاعد ليشكل قاعدة التحالف الجديدة بين القوة الأعظم وحكام ما بعد الربيع، وهو ما نشرته وزيرة الخارجية الأميركية السابقة هيلاري كلينتون ضمن مذكراتها في كتاب "خيارات صعبة"، حيث تحسّرت على عدم اكتمال مشروع حكم الإخوان في المنطقة العربية قائلةً في معرض حديثها عن ثورة 30 يونيو "كل شيء كُسر أمام أعيننا من دون سابق إنذار. شيء مهول حدث في مصر! لقد فشل مشروعنا في مصر عقب سقوط الإخوان المسلمين". وسريعاً، بدأ التحول في سياسة مصر الخارجية يترجم، وكان ذلك قبل وصول السيسي إلى الرئاسة في الانتخابات الرئاسية الأخيرة. فبعد عزل الرئيس السابق محمد مرسي تحسنت العلاقات المصرية-الروسية بصورةٍ لافتة، وتبادل الطرفان الزيارات الرسمية على أعلى المستويات، افتتحت بزيارة وزيري الخارجية والدفاع الروسيين سيرغي لافروف وسيرغي شويغو إلى القاهرة في 14 تشرين الثاني-نوفمبر 2013 إلى القاهرة، واستكملها السيسي (كان حينها وزيراً للدفاع) نفسه في منتصف شباط 2014 بزيارة موسكو التي حصل فيها على موقف استثنائي من الرئيس فلاديمير بوتين يدعم ترشيحه للرئاسة المصرية، ثم أتبعها بزيارةٍ ثانية في منتصف آب من العام الحالي، حيث استقبل في سوتشي استقبال الحلفاء المقربين. 30 يونيو: الجيش يستشعر الخطر الكبير ارتبطت الأسباب الداخلية بتلك الخارجية لتنتج مجتمعةً البيئة المؤاتية لثورة المصريين على حكم مرسي. في الداخل ساهم في سقوط الإخوان تردي الواقع الإقتصادي وعدم وضوح الرؤية التي تنتج حلولاً عند القيادة، خصوصاً الاستمرار بطلب القروض من صندوق النقد الدولي، وبالتالي السير في طريق سلفه حسني مبارك في ما يخص الارتباط الاقتصادي بالمنظومة التي توجهها وتتحكم بإدارتها الولايات المتحدة الأميركية، يضاف إلى ذلك التراجع الكبير في الحريات العامة، ومحاولة التيارات الإسلامية المتشددة فرض نسق حياة مختلف عما اعتاده المصريون، وعما أرادوه لغدهم أيضاً.  وتجاه الخارج، شكل خطاب مرسي في استاد القاهرة في الذكرى 39 لنصر أكتوبر محطةً مفصلية في قرار المؤسسة العسكرية ومعها قسم كبير من الشعب بأنه حان الوقت لإنهاء هذه المرحلة الجاذبة للأخطار على أمن مصر، فقد غيّب رئيس مصر في ذلك الخطاب الوجه العربي لنصر أكتوبر، ومشاركة دول عربية على رأسها سوريا في هذه الحرب، وزاد على ذلك مواقف داعمة للمجموعات المسلحة في سوريا، وبالتالي فقد غيّب دور مصر في قيادة الموقف العربي المقاوم لإسرائيل، إضافةً إلى مخاطبة رئيسها "بالصديق العزيز".  ومع ظهور مصر بصورةٍ ضعيفة في مواجهة الأخطار القادمة من عمق أفريقيا، والتي تشكل تهديداً حيوياً لأمنها القومي ، اكتملت عناصر الخوف لدى الشارع المصري ومن خلفه الجيش من خطورة ما يحدث، ومن اتجاهات الأمور، فضلاً عن استفزازات متكررة للكرامة الوطنية المصرية تمثلت بالحديث عن عروض لاستثمار الأهرامات وقناة السويس، الأمر الذي أدى إلى تكثيف النقمة الشعبية على الرئيس، خصوصاً مع تكرار ظهوره بصورةٍ ضعيفة في لقاءاته الدولية.  مصر تخلط أوراق الشرق الأوسط قبل دخول السيسي قصر الرئاسة عبر الانتخابات، بدا واضحاً أن شيئاً كبيراً قد تغير في تعاطي مصر مع محيطها ومع العالم. لقد تغيرت بسرعة لهجة الخارجية المصرية حيال القضايا المشتعلة في المنطقة، وبدأت شخصية الدولة تظهر بشكلٍ متصاعدٍ في الشكل والمضمون معاً. ومع نجاحه في الانتخابات، وبدأ الحديث عن عودة العلاقات المصرية-الروسية إلى التعافي يتعزز بالوقائع والتصريحات والاتفاقات والتناغم المتبادل في المواقف، خصوصاً في ما يخص لهجة التعاطي مع الأميركيين، مع فوارق بدرجة حدة المواقف، حيث حرصت مصر على ألا توفر فرصة لتظهر أنها تتعامل مع الولايات المتحدة تعامل دولة-دولة.  وفي المقابل، تم تعزيز التعاون مع روسيا في "كل المجالات"، وهو ما صرح به الناطق باسم الرئاسة المصرية قبيل زيارة السيسي إلى موسكو في آب الماضي، حيث قال إن الزيارة وبحث التعاون الثنائي يتم "في ضوء ما سبق أن أعلنه الرئيس السيسي من حرص مصر على توسيع علاقاتها الدولية والانتقال بها إلى آفاق أرحب ومستوى أكثر تميزاً مع كل دول العالم الصديقة والمحبة للسلام، والتي تتشارك مع مصر قيم عدم التدخل في الشؤون الداخلية، واحترام كرامة الشعوب وإرادتها الوطنية الحرة"، وفي الجملة الأخيرة بيت القصيد.  إذاً، تحولت مصر من الاعتماد الكلي على ما تقدمه الولايات المتحدة من معونات مشروطة بمواقف مناسبة لها في السياسة الخارجية تبدأ بفلسطين ولا تنتهي عند حدود سوريا، إلى البحث عن علاقات مع كل الدول، وخصوصاً تلك التي تتشارك معها في قيم عدم التدخل في الشؤون الداخلية. ولا يعني ذلك بأية حال قطع العلاقة القديمة مع واشنطن، أو استجلاب عدائها، إنما سعياً لاستعادة التوازن في العلاقات الدولية لمصر، وخروجها من موقع التابع إلى رحاب الانفتاح على تعاون يحقق مصالح متبادلة.  واستطاعت مصر بقيادة السيسي أن تستند إلى علاقات جيدة مع دول الخليج العربي التي تناهض الإخوان المسلمين، والتي تتخوف من وصول خطرهم إليها كالسعودية والإمارات العربية المتحدة، وقد ساهمت هذه العلاقة في تثبيت الوضع الإقتصادي في مصر من جهة، وطمأنة الغرب بأن توجهات الإدارة المصرية الجديدة لا تستهدف التخلي عن العلاقة بحلفائها في المنطقة، إنما توسيع دائرة العلاقات الدولية لمصر.  دول تواجه المخاطر نفسها مع بدء تراخي القبضة الأميركية على النظام الدولي في السنوات الأخيرة، وانكشاف هشاشة هذا النظام أمام الأزمات الكبرى، تخوض  دول عدة  اليوم حرب تحرير قرارها السياسي من يد واشنطن، لتبحث لنفسها عن شروط أفضل تمكنها من تحقيق مصالحها إلى جانب حلفاء جدد، فيما تستمر دول أخرى في الحرب نفسها حيث كانت قد بدأتها في فترةٍ سابقة.  وتستند هذه الدول عموماً إلى اندفاعة روسية نحو دور عالمي جديد، وهي الدولة التي خرجت مبكراً من مرحلة الرضوخ للغرب.  وفي المنطقة العربية، تبدو كل من سوريا والجزائر والعراق ومعها مصر، في موقع الباحث عن استعادة –أو الحفاظ على- قدرته في مواجهة الإرادة الأميركية بإرادة وطنية. وتحوز هذه الدول على أهمية استراتيجية فائقة بالنسبة للقوى الكبرى، حيث لكلٍ من سوريا ومصر والعراق مواقع جغرافية هامة استراتيجياً، وتاريخاً ضاربة في عمق التاريخ، إضافة إلى وجود مخزونات مهمة من الغاز، وحدود مباشرة أو قريبة من فلسطين المحتلة وبالتالي دور مهم في الصراع العربي-الإسرائيلي، إضافة إلى التاريخ الحضاري والسياسي الغني، ولديها   حجم سكاني مهم (خصوصاً مصر)، فيما تملك الجزائر الكثير من هذه الخصائص أيضاً، كما أن هذه الدول تعتبر مركز ثقل القرار العربي وترتبط  بعلاقة متصاعدة باستمرار مع روسيا.  وللمفارقة التي تتضمن الكثير من المعاني، فإن واشنطن المتضرر الأكبر من سعي هذه الدول إلى البحث عن مصالحها المستقلة، لا تشكل الخطر العسكري المباشر عليها، وهي بالطبع لا تقف مكتوفة الأيدي أمام تطور علاقاتها مع روسيا، وعليه فلا بد من وجود أطرافٍ أخرى تؤدي وظيفة تهديد تلك الدول الساعية إلى التغريد بعيداً من واشنطن. وعند التعمق في المخاطر التي تواجهها الجزائر ودمشق وبغداد والقاهرة، يتضح أن العدو المباشر اليوم هو الإرهاب، المتمثل بحركاتٍ إسلامية متشددة جعلت في أعلى أولوياتها ضرب مقومات الدول لتطبيق "شرع الله"، وفي ذلك مؤشر مريب يدعو إلى التفكير ملياً.  ففي سوريا، لا يمكن حصر أعداد التنظيمات الإسلامية التي تقاتل الدولة، والحال نفسها في العراق، وفي مصر فإن التنظيمات الإرهابية في سيناء وغيرها تتولى مهمة ضرب الجيش ومؤسسات الدولة في كل فرصة، وفي الجزائر يخوض الجيش حملة عسكرية ضد "جند الخلافة" الذين أعلنوا انضمامهم لـ"داعش".  وتواجه هذه الدول ومعها روسيا مخططات رامية إلى تقسيمها وإشغالها في محاولة الدفاع عن وحدتها الترابية في وجه الإختراقات الداخلية التي تتخفى خلف مطالب الديموقراطية وحقوق الإنسان، على قاعدة تقول إن الدول التي لا تسير في الركب الأميركي هي دول تحتاج بالضرورة إلى الديموقراطية، ويفترض ذلك تصنيف الفئات الإجتماعية، وتقسيم الحقوق الطبيعية الخاصة بالمواطنة إلى حقوق فئوية تطالب بها كل فئة على حدى، وبالتالي تسهل عملية الإختراق من الخارج.  الدولة تبحث عن "القائد الرمز" تغري ظاهرة فلاديمير بوتين الشعوب العربية في الشرق الأوسط، والتي تعاني من تفكك بنية الدولة من جهة، وضعف مسؤوليها أمام إرادة القوى الكبرى من جهة أخرى، وتتطلع إلى قائدٍ يعيد إلى أوطانها الإحساس الوطني الذي قارب الاندثار في أجواء الانقسامات الفئوية التي يتم تحفيذها من الخارج. ومن بين هؤلاء، يتطلع المصريون الذين أتعبتهم سنوات حكم مبارك وما تلاها من تخبط، إلى قائد يشعرون من خلاله بالكرامة الوطنية التي يستذكرونها كل عام في ذكرى نصر أكتوبر.  يتلمس السيسي هذه الحاجة المعنوية الماسة عند شعبه، ولا يفوت فرصة لإظهار قدرته على لعب دور القائد القوي الذي تحتاجه البلاد ليعيد إليها دورها المفقود في العقود الأخيرة. يستخدم في سبيل ذلك مزيجاً -يبدو ناجحاً- من الخطاب العاطفي والحلول العقلانية لمشكلات الدولة، ويتوسل نبرةً هادئة يعرف أنها تدخل أسماع المصريين وتقربه منهم، من دون ان ينسى رفع هذه النبرة في وقت الحديث عن قضاياً الشعور القومي ومحاربة الإرهاب ومواجهة الفساد وغيرها من القضايا التي يطرب المصريون لسماعها. كما اعتنى السيسي بصورته كواحد من الشعب، مكرساً فكرة أنه ابن حي الجمالية الشعبي في القاهرة، وابن البلد. بعد انتخابه رئيساً، تخلى السيسي عن غموضه وبعده عن وسائل الإعلام، كما كان الحال عندما شغل مناصب عسكرية سابقة، وروج له في فترة حكم الإخوان أنه الرجل المتدين في المجلس العسكري، وهي صفة تعني المصريين كثيراً، كما أنها ساهمت إلى حدٍ بعيد في تجنيبه محاربة الإخوان له. ويدرك الرجل قدرة الشارع المصري على التغيير، والتي أثبتها في 30 يونيو يوم عزل سلفه مرسي، لذلك فإنه واظب على طلب نزول الناس إلى الشوارع لتفويضه قبل كل قرارٍ حاسم اتخذه، كما حصل حين طلب تفويضه بمكافحة الإرهاب. ويحاول أن يغزي الفكرة السائدة في مصر وهي أن السيسي هو عبد الناصر الجديد، والذي أتى في الوقت المناسب لينقذ مصر. وقد برهن السيسي على أنه رجل قوي فعلًا، أرغم الولايات المتحدة على مراجعة مواقفها من ثورة 30 يونيو، وواجه التدخلات التركية في شؤون بلاده بأقسى الطرق الديبلوماسية، الأمر الذي مكنه من استخدام القوة في الداخل ضد الإخوان في أكثر من مناسبة، حيث فض اعتصامات الإخوان، وأظهر حزماً في التعاطي مع مسألة الإعلام الذي يتهم اليوم بأنه موالٍ لسياساته بشكلٍ عام. وبعد أقل من سنة على انتخابه، تحول السيسي إلى رمز للمصريين، يعلقون صوره في كل مكان من البلاد، وتطبع على الملابس والهدايا التذكارية، ويعاملونه معاملة الروس لرئيسهم بوتين. أكتوبر 2012.. أكتوبر 2014 كان احتفال مصر بالذكرى 41 لنصر أكتوبر مميزاً على أكثر من صعيد، فهو من جهة أعاد التركيز على البعد العربي لهذا النصر، وذلك من خلال إظهار أعلام الدول التي شاركت في حرب أكتوبر عام 1973، ومن بينها سوريا بجيشها وعلمها، ومن جهة اخرى من خلال تضمنه لمعدات عسكرية وأسلحة جديدة تترجم المسار الذي سبق الحديث عنه حول التعاون العسكري بين مصر وروسيا. في الجانب الأول، وبينما كان خطاب مرسي في الذكرى 39 في استاد القاهرة عام 2012 يندرج تحت عنوان "دعم الثورة السورية"،  فإن إحياء الذكرى 41 للحرب هذا العام يندرج ضمن سياقٍ مختلف تماماً، يتم خلاله التشديد على دور الجيوش العربية وشراكتها في النصر، كما أن حال العلاقات بين الدولتين اختلفت اختلافاً كبيراً خلال هاتين السنتين. وفي الجانب الثاني، فإن مصر لم تعد تعتمد حصراً على التسليح الأميركي، بل ان العرض العسكري هذا العام تضمن ظهور أسلحة متطورة لم تعلن مصر عن امتلاكها سابقاً، مثل Buk-M2  وTor-M2، والتي تنتجها شركة "Almaz-Antey" الروسية للتصنيع العسكري، وهي صواريخ دفاعية أرض-جو تنتمي لعائلة الصواريخ الروسية (SAM)، وهي قادرة على اعتراض أهداف عديدة في آن واحد، مثل الطائرات المقاتلة والصواريخ الموجهة وغيرها، وتمتلك هذا النوع من الصواريخ كل من روسيا، أذربيجان، بيلاروسيا، الصين، قبرص، اليونان، إيران، أوكرانيا، فنزويلا ومصر، وقد عرض هذا الطراز في خلال العام الحالي في معرض 2014 DEFEXPO في الهند. ومع أن غالبية الشاحنات التي مرت خلال العرض روسية التصنيع، غير أن دبابات Abrams الأميركية كانت حاضرة أيضاً، وهي الدبابات التي كانت مصر قد طلبتها عام 2011. وكان لافتاً للمختصين عدم الإشارة إلى الأسلحة الأميركية خلال العرض. وفي سياق التعاون العسكري النوعي بين الطرفين، ينوي وفد يمثل شركة "ميغ" الروسية برئاسة مديرها العام سيرغي كوروتكوف إجراء محادثات مع الجانب المصري هذا الشهر بشأن توريد مقاتلات "ميغ – 35" إلى مصر. حيث صرح كوروتكوف لوكالة "إيتار – تاس" الروسية قائلا:"سبق لهم (المصريون) أن اختبروا طائراتنا. ونأمل بأن نتلقى دعوة لإجراء محادثات تقنية بهذا الشأن"، وكان وزير الدفاع المصري أكد في مطلع العام الجاري أن كلاً من المملكة العربية السعودية ودولة الامارات العربية المتحدة ستقومان بتمويل شراء مصر للأسلحة الروسية، وقال آنذاك إن روسيا ستزود مصر في إطار الاتفاقات المتوصل إليها بـ 24 مقاتلة من طراز "ميغ – 29". ولا شك أن هذه المعطيات وغيرها تساعد مصر في معركة استعادة العافية بعد الأحداث التي شهدتها السنوات الأخيرة، وتعزز قدرات الدولة في مواجهة الأخطار الخارجية، ولكن جملة من المخاطر تبقى حاضرة في أذهان القادة المصريين، أهمها التنظيمات الإرهابية التي تعمل على زعزعة الاستقرار من الداخل. تهديدات الأمن القومي المصري وأثمان تحرير القرار تبقى إسرائيل التهديد الأساسي والقائم دائماً لأمن مصر القومي، وهي إن توارت خلف الأخطار المستجدة، فلا بد أنها متحفزة دوماً نحو ابتكار السبل الكفيلة بإنهاك القاهرة واستنزاف قدراتها، كما أنها لم تتوقف يوماً عن اعتبار مصر عدواً خطراً تضرب له الحسابات العسكرية الجدية، وتحاك ضده المؤامرات السياسية والاقتصادية وغيرها. ومع تصاعد قدرة الشعب المصري على اختيار قيادته منذ ثورة 25 يناير، فإن إسرائيل تجد نفسها أمام مسار سيفضي بالضرورة إلى إعادة تصويب البوصلة العسكرية المصرية باتجاهها عاجلاً أم آجلاً. يضاف إلى التهديد الاسرائيلي الدائم، فإن مصر تواجهة مجموعات إرهابية على أرضها وعلى حدودها من جهتي الشرق والغرب، ففي سيناء يخوض الجيش المصري بشكلٍ متكرر معارك مع التنظيمات التي تتمركز بين مصر وإسرائيل، وتوجه أسلحتها ناحية مصر، وهي معركة غير سهلة نظراً لظروف ميدانية وسياسية عديدة. وفي الغرب، تشكل حالة الفوضى العبثية التي تشهدها ليبيا تهديداً حقيقياً لأمن مصر، الأمر الذي تتنبه إليه القاهرة وتتعامل معه بجدية تامة، تساندها الجزائر من الجهة الأخرى للحدود الليبية. ولا شك في أن هذه المخاطر من الجهتين ليست وليدة مجتمعات هذه الدول، بل إن استهداف مصر مطلب لسياسات خارجية للدول المستفيدة مما يحصل. من الجنوب أيضاً تشكل المشروعات المائية الضخمة على نهر النيل وروافده خطراً كبيراً على الامن القومي المصري، خصوصاً وأن مصر تعتمد على مياه النيل منذ وجدت، وحاجتها إلى نسبة كبيرة من مياهه هي حاجة حيوية تستأهل أن توظف جيشها وديبلوماسيتها وعلاقاتها في سبيل تلبية هذه الحاجة، علماً أن المسألة هناك لا تقتصر على خلاف تحاصص مياه النهر الأطول في العالم، بل إن أصابع عدوانية تتحرك في دول حوض النيل، وتوجه بعض الدول باتجاه التضييق على مصر وخنق مواردها المائية، في سبيل إضعافها ومنعها من الصعود مجدداً. في الداخل، يضاف إلى انعكاسات المخاطر سالفة الذكر، الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي يعاني منها المواطن المصري، وعدم قدرة الدولة حتى اللحظة على تأمين فرص عمل كافية للشباب، فضلاً عن مشكلة تأمين الغذاء لحوالى 90 مليون نسمة.   يدرك السيسي أن نجاح مشروعه للدولة رهن بإيجاد الحلول المناسبة لمواجهة هذه المخاطر، ويحاول من خلال فتح آفاق العلاقات الدولية أمام بلاده جذب الاستثمارات والحصول على مساعدة دول الخليج، إضافة إلى تطوير البنى التحتية للدولة التي تعتمد كثيراً على عائدات الترانزيت بسبب موقعها الجغرافي، وفي سبيل ذلك تم استحداث قناة جديدة في السويس، وأعلنت مصر إعادة البحث في اتفاقية "الرورو" التي وقعها مرسي مع الأتراك لإعفاء بضائعهم من المرور عبر السويس، وغيرها من الإجراءات التي تميزت بالجرأة في طرح الحقائق الصعبة أمام المواطنين، ودعوتهم إلى المساهمة في إنقاذ البلاد من خلال سداد قيمة الخدمات التي يحصلون عليها من الدولة. كان يمكن لهذه النقطة الأخيرة أن تفجر موجة من الاحتجاجات الشعبية ضد الحكم الفتي، ولكن التركيز على التعبئة الوطنية ورفع الشعور القومي عند المواطنين يثمر حتى الآن في تعميق الإحساس لدى المصريين بأن مشروعاً للوطن يأخذ سكته نحو النجاح في ما لو اتخذوا الإجراءات اللازمة واستعانوا بالصبر حتى تبدأ النتائج الإيجابية بالظهور. آفاق التحول المصري وفرص نجاحه لطالما لعب الموقع الجغرافي دوراً أساسياً في إعطاء مصر أفضلية كبرى بين دول المنطقة، ترجمت دوراً مركزياً في التأثير في الأحداث التي شهدتها عبر السنوات، خصوصاً عندما يندمج هذا العامل مع عدد السكان الذي بات يقارب ال  90   مليوناً، ما يجعل من مصر أكبر دول المنطقة من حيث السكان، وأفضلها موقعاً، مع إطلالة واسعة على البحر المتوسط ومثلها على البحر الأحمر، وكحارسٍ للمر الإجباري بينهما. ويعتبر الشكل الهندسي لخارطة مصر وحجمها نموذجياً من ناحية الجيوبوليتيك، حيث تتقارب مسافات الطول والعرض، وتتكئ الدولة بشكلٍ شبه مربع بين قارتين كبيرتين. ويلعب البعد الحضاري الممتد إلى عمق 7000 سنة في التاريخ دوراً في تشكيل الوعي العام للمجتمع المصري، ما ينعكس عملياً موارد بشرية تفوق بأهميتها المعالم الأثرية التي تمتلك البلاد منها ما يدهش العالم. في ذلك كله، وفي غيره من المعطيات الثابتة والمتغيرة، قاعدة للحديث عن دور مستقبلي لمصر فيما لو توافر عنصر الإرادة الوطنية -ونفترض في هذا السياق أنه متوافر في هذه اللحظة من تاريخها- مدفوعة بقرار سياسي لاستعادة الدور الذي لطالما لعبته "أم الدنيا". وتزداد فرص مصر في العودة إلى حاجة الدول العربية المحيطة إلى هذا الدور، خصوصاً بعد أن أثبتت القاهرة قدرتها على الصعود بالأفكار السياسية في العالم العربي، كما في إسقاطها، فضلاً عن قدرة مصر على حسم المواجهات الكبرى مع الأعداء عندما تقرر دخولها. على الساحة الدولية، يعزز من فرص نهوض مصر تقاربها المستمر والمتنامي من الدول الصاعدة، وفي طليعتها روسيا، وهي دول يرجح أن تلعب دوراً مهماً في إعادة تشكيل النظام الدولي، وإعادة رسم آليات اقتصادية جديدة له، خصوصاً بعد أن تكتمل منظومتها الاقتصادية (إحدى إشارات ذلك إنشاء مصرف بريكس)، وملل هذه الدول من السياسات الأميركية التي فرضت بالقوة أو بالابتزاز على الدول الأخرى. وعلى الساحة العربية والإقليمية، تزداد فرص نجاح مصر في استعادة قرارها المستقل كلما نجحت الدول التي تخوض المعركة نفسها في المعارك التي تخوضها، فنجاح محور المقاومة في مواجهة إسرائيل، واستعادة العراق لحمته الداخلية ووحدة أراضيه، وطرده للإرهاب، وعودة سوريا معافاة بعد معركتها القاسية في وجه الإرهاب؛ كلها بوادر تفضي عند اكتمالها إلى تعزيز فرص مصر في استكمال مشروعها السيادي الذي نفترض أنها بدأته. ولكن الشرط الأساسي للنجاح يبقى ثبات الإرادة الداخلية ووضوح الرؤية عند القيادة المصرية، وبناء على ذلك، يكون السيسي إما "ناصر" جديد، أو مبارك آخر.

المصدر : الماسة السورية/ محمد سيف الدين


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة