كانت اتفاقية برمودا 1957 بين واشنطن ولندن تعبيراً مكتوباً عن إنتقال "تركة" امبراطورية من بلد الى آخر، وإشعاراً "بخضوع" قارات بأكاملها تقريباً لإمبراطورية دشنت "حقبتها" بإستخدام السلاح النووي للمرة الأولى في التاريخ... لكن عالم اليوم، وتحديداً منطقتنا العربية، تحتوي على جملة من الإختلافات الجوهرية والحاسمة عن تلك البيئة الاستراتيجية المستمرة منذ نصف قرن تقريباً، منها:

 * كانت حدود سايكس-بيكو وغيرها من الاتفاقيات الاستعمارية تتمتع بإستقرار نسبي كبير جداً، بينما تعاني اليوم من إضطراب وتوتر شديدين، وكأنها ما عادت قادرة على إستيعاب المتغيرات خلف خطوطها وحولها في الإقليم والعالم. صحيح أن الدولة القطرية كانت فتية، لكن قدرتها على "إستيعاب" النزوع القومي كانت كبيرة جدا من جهة، ومن جهة ثانية حافظت على قدر معقول جداً من السيطرة المركزية على ترابها الوطني... بينما تعاني الدولة القطرية اليوم من تراجع كبير في قدرتها على التحكم بحدودها، وعلى الناس داخل هذه الحدود، خصوصاً بعد "إستبدال" النزعة القومية بفكر ديني يرفض الحدود من حيث المبدأ، ويناهض الفكرة القومية، وقادر في ذات الوقت على مدّ جسور التفاهم مع عواصم الاستعمار الامبراطوري، وتحديداً طرفي معاهدة برمودا... وكأن هناك مسعى حثيث لإعادة إنتاج خرائط المنطقة.

 * منذ بزوغ "الحقبة النفطية" عقب حرب تشرين 1973، دخلت الدولة القطرية طوراً خطيراً من المركزية المفرطة والتآكل التدريجي في آن، كحال مصر والعرق ولبنان مثلاً... وصولاً الى ظهور تنظيمات وأحزاب شعبية، مسلحة في معظمها، بدأت بلعب دور مركزي داخل بعض الدول... وأما اليوم، فقد أصبحت تلك التنظيمات تمثل قوى "محليّة" الطابع، إقليمية التأثير، مثل الاكراد والاخوان المسلمين وانصار الله وحزب الله، ومؤخراً داعش.

 * سابقاً، كان حليف العرب الدولي الإتحاد السوفيتي، الكيان العابر للقوميات، الإشتراكي الشكل، العِلماني الطابع... بينما تشكل روسيا، وطنية الهوية، الفدرالية الهيكل، المتمركزة حول الذات تنموياً، العَلمانية الطابع... حليفاً طبيعياً للعرب، بسبب عدة عوامل كبرى منها، هذا التحول الجذري في هويتها. للمرة الأولى، ربما، يحارب الحليف الروسي، بجيشه ومعداته وأسلحته على هذا النحو الواضح والعلني والمباشر... في معطى يؤشر إلى كثير من المتغيرات الكبرى في البنية العميقة لموازين القوى الدولية، أبرزها، تداعي "قبضة" طرفا برمودا 1957.

 * التراجع الكبير في أهميّة النفط عموماً، والنفط "العربي" بشكل أكثر تحديداً، خصوصاً بعد اكتشاف مخزونات هائلة في غير منطقة من العالم، وتطور وسائل استخراج النفط ما أتاح استخراجه من مناطق جديدة كالبحار والرمال، ودخول الغاز بقوة إلى أسواق الطاقة... وتحول امريكا، أكبر مستهلك دولي للنفط، الى التصدير بعد حظر دام لنصف قرن تقريباً... وهنا أيضاً نكتشف عنصراً جديداً من عناصر قوة الحلف الصاعد –روسيا،سورية،ايران،جمهوريات سوفيتية سابقة...- حيث الامكانات الغازية والنفطية الهائلة كميّاً، والأكثر حيوية وقرباً من السوق الاكبر حالياً –اوروبا- والسوق الاكبر مستقبلاً، الصين، والمنافس الطبيعي الاكبر لمحميات واشنطن النفطية سياسياً.

 * استمراراً لنهجه المتحالف مع واشنطن وانقرة وتل ابيب، يحاول مسعود برزاني تفتيت العراق وسورية لإقامة "كيان كردي" على مقاسه، متمرداً على قيادات كردية تاريخية لم تتلوث بهذه العلاقات المشبوهة ولم تغامر بـ"القطع" مع محيطها العربي، مثل جلال الطلباني وعبد الله اوجلان... لكنه أوصل اقليم كردستان العراق، وحاول أن يفعلها مع أكراد سورية لولا تنبههم لهذا المشروع المشبوه، الى طريق مسدود؛ بل الى فوهة البركان. بالرغم من تأجيل معركة الاستحقاقات الدستورية في الاقليم، إلا أن إنهيار أسعار النفط وآثاره على حكومة "برزاني" المعتمدة على عوائد النفط، حيث راكمت ديوناً بلغت 18 مليار دولار، الأمر الذي يهدد قدرتها على دفع رواتب العاملين وقوات الأمن. وبسبب "حاجتها" الماسة لدفع مرتبات العاملين، استولى مسؤولون في كردستان العراق على ودائع فرعين من فروع البنك المركزي العراقي... لكن، الى متى، والى أين ستكون قبلة برزاني الجديدة؟ الى السليمانية وبغداد ودمشق وموسكو أم الى واشنطن وتل ابيب وانقرة؟. 

 

* ايران التي كانت أحد أهم أضلاع المثلث –تركيا والكيان الصهيوني- الذي يسوّر المشرق العربي برمته، أصبحت أحد أهم قواعد مقارعة مخططات ما تبقى من هذا المثلث وأذنابه ومحركيه الغربيين... عقب نجاح الثورة الإسلامية بكسر سلسلة "شرطيي" المنطقة في مقتل.

 * سقوط حكومة صدام حسين التي ناصبت سورية العداء، ودعمت عصابات الاخوان في أواخر القرن الماضي، وحاربت ايران لثماني سنوات في تحالف مع محميات الخليج... لتكتشف واشنطن بعد تعثر مشروعها لإحتلال العراق، أنها فتحت طريقاً لتحالف لم تشهده المنطقة منذ قرون، من بيروت الى دمشق الى بغداد وصولاً الى طهران ثم موسكو.

 * فلسطين، حيث الثكنة الاستعمارية الغربية "الدائمة" والمتقدمة، الكيان الصهيوني، تعيش وضع "استثنائي" لم تمر به منذ العام 1967، حيث ظهرت قوى مسلحة مقاومة، قادرة على الدفاع عن نفسها وعن البقعة التي تتوضع، وتهديد قلب كيان العدو... ويجب أن لا يغيب عن أذهاننا ما قالته هيلاري كلنتون عن التهديدات الثلاثة التي ستعصف بوجود هذا الكيان: الديموغرافيا-السكان، التكنولوجيا-الصواريخ، الايدولوجيا-المقاومة.

 * مع الحقبة النفطية، ظهرت واحدة من أخطر الفئات الاجتماعية في الوطن العربي، الوكلاء-الكمبرادور(عملاء وخدم مراكز رأس المال العالمي ومصالحه، من وسطاء ووكلاء وسماسرة، يعملون في الأنشطة التجارية والصناعية، ولكنهم ليسوا تجاراً ولا حرفيين صُناعاً، يُعبّدون الطريق للمصارف والشركات العملاقة لالتهام السوق الوطنية بما فيه البشر، يتولون الوساطة في العمليات التجارية، وترويج البضائع الاجنبية في الأسواق، نظير نسبة مئوية... لذلك، هي الأشد عداءً لنهج بناء الدولة الوطنية الحديثة، والإقتصاد الوطني المستقل، والهوية الوطنية الواحدة، كون هذا النسق بالذات يتعارض كلياً مع وظيفتها ومع مصالحها). ولأنها طفيلية جبانة وإنتهازية مُستَغِلّه، عمدت إلى الإحتماء بالمسجد والتلطي بالتدين، والإستعانة بـ"التكفيريين" أينما كانت، وهؤلاء "التكفيريون" موجودون في المجتمع –بحكم عوامل تاريخية واجتماعية واقتصادية وثقافية- وفي السلطة تحت مسمى الفساد والفاسدون... ولأنها قنطرة الغرب الى الداخل، وواجهته السياسية-الاقتصادية-الثقافية المحلية... فهي وسيلته في "تجريف" الوطن ثقافياً وسياسيّاً وقيميّاً واقتصاديّاً واجتماعيّاً... وأداته لتحويله الى تجمع بشري بهيمي مستهلك نفعي ومستلب، مرجعيته القيمية مصالحه الفردية، ومرجعيته الثقافية "فتات" ما تنتجه هذه الفئة وسِقطها، ومرجعيته الدينية "مسجد" السماسرة وخطيبهم... صاحب المشروع التفتيتي والمذهبي-الاخواني-المتطرف.

 * ظهرت الحرب اللامتماثلة، كنوع هجين من حروب العصابات وتكتيكات الجيوش النظامية وخطوطها العريضة، حيث الاسلحة الثقيلة والمعسكرات وساحات الاسناد المحمية، كباكستان في افغانستان، تركيا في سورية... لخوض الحروب بالواسطة، بعد إستعصاء نشوبها بين قطبي العالم بفعل الردع النووي المتبادل، أثبتت نجاعتها مع الاتحاد السوفيتي في افغانستان، وهي المستخدمة اليوم في سورية... وتمثل هذه الحرب بجماعاتها الارهابية وتحالفاتها... واحدة من أكثر صور تحالف البترودولار والكبرادور والمركز الرأسمالي الغربي وضوحاً وسطوعاً... لنتذكر، من هو رأس CIA الجهادي أواخر القرن الماضي، وكيف ركبه بريجنسكي وبندر، ومن أين أي أرض جاء، وبأي مال دعم، ومن حارب...؟. لكن ما لم يكن في حسبان واشنطن، هو أن تقف عاجزة امام حرب كانت أحد أهم مبتكريها ومستخدميها.

 * آثار هذه البيئة الاستراتيجية الجديدة على سورية والعالم:

 1- قبل مئة عام تقريباً، ترك الفحم مكانه في المجتمع الانساني لصالح النفط، فتغيرت وسائل الانتاج، صعدت قطاعات وانهارت أخرى، أثريت دول وأفقرت أخرى، ظهرت شركات فيها ملايين البشر وأنهارت أخرى، تطورت بنوك وعملات وتداعت ثانية، شُنت حروب وأختفت دول وظهرت اخرى... خلال سنوات قليلة جداً، سنكون أمام مشهد مماثل أكثر صخباً وكارثيّة... تخيلوا محمية آل سعود بلا عوائد النفط؛ بل تخيلوا امريكا بشركاتها النفطية العملاقة، ومجمعات السلاح والصناعة القائمة على النفط بحركتها وعوائدها، ونمطها الاستهلاكي المتوحش، وإنفاقها الخيالي، وتماسك بنيتها العميقة القائمة على "الدولار" ومشتقاته، وانهيار مئات الشركات التي قامت على آمال تصدير نفط الجرف البحري... هل ستبقى بحدود امبراطورية برمودا 1957؛ بل هل ستبقى هي ذاتها؟!.

 2- الكيان الصهيوني الذي أُنشئ مع نصب أول بئر نفطية في منطقتنا قبل 100عام تقريباً، ما هي فرص بقائه؟ أليس سؤالاً مشروعاً؟.

 3- سورية التي صمدت وأنتصرت، وعلى أرضها تداعى نظام دولي وظهر آخر، وصاحبة الاحتياطات الهائلة من طاقة الغد، الغاز، هل ستكتفي بالجولان والاسكندرون؟ وهل سترضى أن تبقى الاراضي المقدسة، القدس ومكة والمدينة بيد آل صهيون وسعود؟ مشروع الدولة-المركز لا يمكن أن يحتمل بقاء جزء من أرضه محتلة، كما لا يمكنه التساهل بمجاله الحيوي ومصادر قوته الناعمة... القدس ومكة والمدينة والكنيستان الأرثوذكسية والمارونية، أعمدة رئيسية في هذه القوة الناعمة، وجزء من مجال سورية الحيوي.

 * كلمة أخيرة:

 الاربعاء 8/2/2012، وزير الخارجية التركي داود اوغلو، يتساءل: "كيف لنظام لا يسيطر على الزبداني التفكير في مواجهة تركيا؟". لنسأل اوغلو: كيف لنظام تنهار مظلته الدولية، أمريكا، ويهزم خنجره في كل المنطقة، الاخوان المسلمين وتفرعاتهم، وتسحق فئة كانت جسره لغزو بلداننا، الكمبرادور، ويندثر مصدر ثرائه الفعلي، البترودولار... أن يحلم بالبقاء؟ كما سقط الشاه، سيسقط اردوغان، وكم رحل "المارينز" من لبنان، سيرحل الصهاينة من فلسطين... 100 عام من النفط مسافرة، وستأخذ معها كل "الخيام" التي نشأت حول آبار النفط.    
  • فريق ماسة
  • 2016-01-18
  • 8415
  • من الأرشيف

مائة عام من النفط ...بقلم سمير الفزاع

كانت اتفاقية برمودا 1957 بين واشنطن ولندن تعبيراً مكتوباً عن إنتقال "تركة" امبراطورية من بلد الى آخر، وإشعاراً "بخضوع" قارات بأكاملها تقريباً لإمبراطورية دشنت "حقبتها" بإستخدام السلاح النووي للمرة الأولى في التاريخ... لكن عالم اليوم، وتحديداً منطقتنا العربية، تحتوي على جملة من الإختلافات الجوهرية والحاسمة عن تلك البيئة الاستراتيجية المستمرة منذ نصف قرن تقريباً، منها:  * كانت حدود سايكس-بيكو وغيرها من الاتفاقيات الاستعمارية تتمتع بإستقرار نسبي كبير جداً، بينما تعاني اليوم من إضطراب وتوتر شديدين، وكأنها ما عادت قادرة على إستيعاب المتغيرات خلف خطوطها وحولها في الإقليم والعالم. صحيح أن الدولة القطرية كانت فتية، لكن قدرتها على "إستيعاب" النزوع القومي كانت كبيرة جدا من جهة، ومن جهة ثانية حافظت على قدر معقول جداً من السيطرة المركزية على ترابها الوطني... بينما تعاني الدولة القطرية اليوم من تراجع كبير في قدرتها على التحكم بحدودها، وعلى الناس داخل هذه الحدود، خصوصاً بعد "إستبدال" النزعة القومية بفكر ديني يرفض الحدود من حيث المبدأ، ويناهض الفكرة القومية، وقادر في ذات الوقت على مدّ جسور التفاهم مع عواصم الاستعمار الامبراطوري، وتحديداً طرفي معاهدة برمودا... وكأن هناك مسعى حثيث لإعادة إنتاج خرائط المنطقة.  * منذ بزوغ "الحقبة النفطية" عقب حرب تشرين 1973، دخلت الدولة القطرية طوراً خطيراً من المركزية المفرطة والتآكل التدريجي في آن، كحال مصر والعرق ولبنان مثلاً... وصولاً الى ظهور تنظيمات وأحزاب شعبية، مسلحة في معظمها، بدأت بلعب دور مركزي داخل بعض الدول... وأما اليوم، فقد أصبحت تلك التنظيمات تمثل قوى "محليّة" الطابع، إقليمية التأثير، مثل الاكراد والاخوان المسلمين وانصار الله وحزب الله، ومؤخراً داعش.  * سابقاً، كان حليف العرب الدولي الإتحاد السوفيتي، الكيان العابر للقوميات، الإشتراكي الشكل، العِلماني الطابع... بينما تشكل روسيا، وطنية الهوية، الفدرالية الهيكل، المتمركزة حول الذات تنموياً، العَلمانية الطابع... حليفاً طبيعياً للعرب، بسبب عدة عوامل كبرى منها، هذا التحول الجذري في هويتها. للمرة الأولى، ربما، يحارب الحليف الروسي، بجيشه ومعداته وأسلحته على هذا النحو الواضح والعلني والمباشر... في معطى يؤشر إلى كثير من المتغيرات الكبرى في البنية العميقة لموازين القوى الدولية، أبرزها، تداعي "قبضة" طرفا برمودا 1957.  * التراجع الكبير في أهميّة النفط عموماً، والنفط "العربي" بشكل أكثر تحديداً، خصوصاً بعد اكتشاف مخزونات هائلة في غير منطقة من العالم، وتطور وسائل استخراج النفط ما أتاح استخراجه من مناطق جديدة كالبحار والرمال، ودخول الغاز بقوة إلى أسواق الطاقة... وتحول امريكا، أكبر مستهلك دولي للنفط، الى التصدير بعد حظر دام لنصف قرن تقريباً... وهنا أيضاً نكتشف عنصراً جديداً من عناصر قوة الحلف الصاعد –روسيا،سورية،ايران،جمهوريات سوفيتية سابقة...- حيث الامكانات الغازية والنفطية الهائلة كميّاً، والأكثر حيوية وقرباً من السوق الاكبر حالياً –اوروبا- والسوق الاكبر مستقبلاً، الصين، والمنافس الطبيعي الاكبر لمحميات واشنطن النفطية سياسياً.  * استمراراً لنهجه المتحالف مع واشنطن وانقرة وتل ابيب، يحاول مسعود برزاني تفتيت العراق وسورية لإقامة "كيان كردي" على مقاسه، متمرداً على قيادات كردية تاريخية لم تتلوث بهذه العلاقات المشبوهة ولم تغامر بـ"القطع" مع محيطها العربي، مثل جلال الطلباني وعبد الله اوجلان... لكنه أوصل اقليم كردستان العراق، وحاول أن يفعلها مع أكراد سورية لولا تنبههم لهذا المشروع المشبوه، الى طريق مسدود؛ بل الى فوهة البركان. بالرغم من تأجيل معركة الاستحقاقات الدستورية في الاقليم، إلا أن إنهيار أسعار النفط وآثاره على حكومة "برزاني" المعتمدة على عوائد النفط، حيث راكمت ديوناً بلغت 18 مليار دولار، الأمر الذي يهدد قدرتها على دفع رواتب العاملين وقوات الأمن. وبسبب "حاجتها" الماسة لدفع مرتبات العاملين، استولى مسؤولون في كردستان العراق على ودائع فرعين من فروع البنك المركزي العراقي... لكن، الى متى، والى أين ستكون قبلة برزاني الجديدة؟ الى السليمانية وبغداد ودمشق وموسكو أم الى واشنطن وتل ابيب وانقرة؟.    * ايران التي كانت أحد أهم أضلاع المثلث –تركيا والكيان الصهيوني- الذي يسوّر المشرق العربي برمته، أصبحت أحد أهم قواعد مقارعة مخططات ما تبقى من هذا المثلث وأذنابه ومحركيه الغربيين... عقب نجاح الثورة الإسلامية بكسر سلسلة "شرطيي" المنطقة في مقتل.  * سقوط حكومة صدام حسين التي ناصبت سورية العداء، ودعمت عصابات الاخوان في أواخر القرن الماضي، وحاربت ايران لثماني سنوات في تحالف مع محميات الخليج... لتكتشف واشنطن بعد تعثر مشروعها لإحتلال العراق، أنها فتحت طريقاً لتحالف لم تشهده المنطقة منذ قرون، من بيروت الى دمشق الى بغداد وصولاً الى طهران ثم موسكو.  * فلسطين، حيث الثكنة الاستعمارية الغربية "الدائمة" والمتقدمة، الكيان الصهيوني، تعيش وضع "استثنائي" لم تمر به منذ العام 1967، حيث ظهرت قوى مسلحة مقاومة، قادرة على الدفاع عن نفسها وعن البقعة التي تتوضع، وتهديد قلب كيان العدو... ويجب أن لا يغيب عن أذهاننا ما قالته هيلاري كلنتون عن التهديدات الثلاثة التي ستعصف بوجود هذا الكيان: الديموغرافيا-السكان، التكنولوجيا-الصواريخ، الايدولوجيا-المقاومة.  * مع الحقبة النفطية، ظهرت واحدة من أخطر الفئات الاجتماعية في الوطن العربي، الوكلاء-الكمبرادور(عملاء وخدم مراكز رأس المال العالمي ومصالحه، من وسطاء ووكلاء وسماسرة، يعملون في الأنشطة التجارية والصناعية، ولكنهم ليسوا تجاراً ولا حرفيين صُناعاً، يُعبّدون الطريق للمصارف والشركات العملاقة لالتهام السوق الوطنية بما فيه البشر، يتولون الوساطة في العمليات التجارية، وترويج البضائع الاجنبية في الأسواق، نظير نسبة مئوية... لذلك، هي الأشد عداءً لنهج بناء الدولة الوطنية الحديثة، والإقتصاد الوطني المستقل، والهوية الوطنية الواحدة، كون هذا النسق بالذات يتعارض كلياً مع وظيفتها ومع مصالحها). ولأنها طفيلية جبانة وإنتهازية مُستَغِلّه، عمدت إلى الإحتماء بالمسجد والتلطي بالتدين، والإستعانة بـ"التكفيريين" أينما كانت، وهؤلاء "التكفيريون" موجودون في المجتمع –بحكم عوامل تاريخية واجتماعية واقتصادية وثقافية- وفي السلطة تحت مسمى الفساد والفاسدون... ولأنها قنطرة الغرب الى الداخل، وواجهته السياسية-الاقتصادية-الثقافية المحلية... فهي وسيلته في "تجريف" الوطن ثقافياً وسياسيّاً وقيميّاً واقتصاديّاً واجتماعيّاً... وأداته لتحويله الى تجمع بشري بهيمي مستهلك نفعي ومستلب، مرجعيته القيمية مصالحه الفردية، ومرجعيته الثقافية "فتات" ما تنتجه هذه الفئة وسِقطها، ومرجعيته الدينية "مسجد" السماسرة وخطيبهم... صاحب المشروع التفتيتي والمذهبي-الاخواني-المتطرف.  * ظهرت الحرب اللامتماثلة، كنوع هجين من حروب العصابات وتكتيكات الجيوش النظامية وخطوطها العريضة، حيث الاسلحة الثقيلة والمعسكرات وساحات الاسناد المحمية، كباكستان في افغانستان، تركيا في سورية... لخوض الحروب بالواسطة، بعد إستعصاء نشوبها بين قطبي العالم بفعل الردع النووي المتبادل، أثبتت نجاعتها مع الاتحاد السوفيتي في افغانستان، وهي المستخدمة اليوم في سورية... وتمثل هذه الحرب بجماعاتها الارهابية وتحالفاتها... واحدة من أكثر صور تحالف البترودولار والكبرادور والمركز الرأسمالي الغربي وضوحاً وسطوعاً... لنتذكر، من هو رأس CIA الجهادي أواخر القرن الماضي، وكيف ركبه بريجنسكي وبندر، ومن أين أي أرض جاء، وبأي مال دعم، ومن حارب...؟. لكن ما لم يكن في حسبان واشنطن، هو أن تقف عاجزة امام حرب كانت أحد أهم مبتكريها ومستخدميها.  * آثار هذه البيئة الاستراتيجية الجديدة على سورية والعالم:  1- قبل مئة عام تقريباً، ترك الفحم مكانه في المجتمع الانساني لصالح النفط، فتغيرت وسائل الانتاج، صعدت قطاعات وانهارت أخرى، أثريت دول وأفقرت أخرى، ظهرت شركات فيها ملايين البشر وأنهارت أخرى، تطورت بنوك وعملات وتداعت ثانية، شُنت حروب وأختفت دول وظهرت اخرى... خلال سنوات قليلة جداً، سنكون أمام مشهد مماثل أكثر صخباً وكارثيّة... تخيلوا محمية آل سعود بلا عوائد النفط؛ بل تخيلوا امريكا بشركاتها النفطية العملاقة، ومجمعات السلاح والصناعة القائمة على النفط بحركتها وعوائدها، ونمطها الاستهلاكي المتوحش، وإنفاقها الخيالي، وتماسك بنيتها العميقة القائمة على "الدولار" ومشتقاته، وانهيار مئات الشركات التي قامت على آمال تصدير نفط الجرف البحري... هل ستبقى بحدود امبراطورية برمودا 1957؛ بل هل ستبقى هي ذاتها؟!.  2- الكيان الصهيوني الذي أُنشئ مع نصب أول بئر نفطية في منطقتنا قبل 100عام تقريباً، ما هي فرص بقائه؟ أليس سؤالاً مشروعاً؟.  3- سورية التي صمدت وأنتصرت، وعلى أرضها تداعى نظام دولي وظهر آخر، وصاحبة الاحتياطات الهائلة من طاقة الغد، الغاز، هل ستكتفي بالجولان والاسكندرون؟ وهل سترضى أن تبقى الاراضي المقدسة، القدس ومكة والمدينة بيد آل صهيون وسعود؟ مشروع الدولة-المركز لا يمكن أن يحتمل بقاء جزء من أرضه محتلة، كما لا يمكنه التساهل بمجاله الحيوي ومصادر قوته الناعمة... القدس ومكة والمدينة والكنيستان الأرثوذكسية والمارونية، أعمدة رئيسية في هذه القوة الناعمة، وجزء من مجال سورية الحيوي.  * كلمة أخيرة:  الاربعاء 8/2/2012، وزير الخارجية التركي داود اوغلو، يتساءل: "كيف لنظام لا يسيطر على الزبداني التفكير في مواجهة تركيا؟". لنسأل اوغلو: كيف لنظام تنهار مظلته الدولية، أمريكا، ويهزم خنجره في كل المنطقة، الاخوان المسلمين وتفرعاتهم، وتسحق فئة كانت جسره لغزو بلداننا، الكمبرادور، ويندثر مصدر ثرائه الفعلي، البترودولار... أن يحلم بالبقاء؟ كما سقط الشاه، سيسقط اردوغان، وكم رحل "المارينز" من لبنان، سيرحل الصهاينة من فلسطين... 100 عام من النفط مسافرة، وستأخذ معها كل "الخيام" التي نشأت حول آبار النفط.    

المصدر : الماسة السورية


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة