#
  • فريق ماسة
  • 2025-10-14
  • 1191

القيود تتراجع والمرافئ تتنفس.. هل تعود سوريا إلى خارطة التجارة؟

لطالما شكّل قطاع الشحن الدولي في سوريا مرآة تعكس حال الاقتصاد والسياسة، حيث كانت حركة الاستيراد والتصدير خلال سنوات حكم النظام المخلوع تتسم بالتعقيد وتخضع لقيود تنظيمية مشددة فرضتها القوانين والقرارات المصرفية، واجه خلالها المستوردون سلسلة من الإجراءات البيروقراطية، من بينها اشتراطات معقدة للحصول على الموافقات اللازمة وتخليص البضائع، وحظر استيراد السيارات المستعملة باستثناء فئات محددة، إضافة إلى استثناءات خاصة ببعض السلع.

وكان القرار رقم "1130- ل أ" الصادر عن مصرف سوريا المركزي عام 2023 أحد أبرز القيود، إذ ألزم مستوردي القطاع الخاص والمشترك بإثبات أن التمويل بالقطع الأجنبي تم عبر المصارف الخاصة أو شركات الصرافة المعتمدة، سواء من مواردهم داخل البلاد أو خارجها، مع تقديم إجازات استيراد في جميع الحالات، حتى في حال التمويل الآجل الذي لا يتجاوز 180 يوماً، كما فرض القرار مبالغ مرتفعة كبدل تسويات على المخالفين، قبل أن يتم لاحقاً إيقاف العمل بإجازة الاستيراد.

موانئ بلا سفن وسوق سوداء في المطارات

في تلك المرحلة، شهدت الموانئ السورية تراجعاً كبيراً في عدد السفن الوافدة، مع إحجام شركات النقل البحري عن التعامل مع سوريا بسبب مخاطر الحرب والعقوبات. وتباطأت شحنات المواد الغذائية والسلع الضرورية، وسط صعوبة إبقاء خطوط الإمداد مفتوحة. حتى أن مطار دمشق الدولي شهد ظهور سوق سوداء للشحن الخارجي عبر الطائرات المدنية، تديرها شخصيات أمنية نافذة تابعة للنظام المخلوع، وذلك لشحن البضائع إلى دول تصلها الخطوط السورية.

لكن مع سقوط نظام الأسد، نهاية عام 2024، بدأت ملامح تحول اقتصادي تظهر، مدفوعة بتخفيف بعض العقوبات المفروضة على سوريا، ما دفع شركات الشحن إلى إعادة تقييم عملياتها وسط آمال بتحسن حركة البضائع وتراجع القيود التي كبّلت القطاع لسنوات، في حين يُعد هذا الانفتاح نقطة تحول حقيقية، لا سيما في قطاع الشحن الذي يشكّل شرياناً أساسياً لحركة التجارة والاستيراد والتصدير.

بيانات رسمية كشفت عن تفاوت لافت في حركة الشحن الجوي بين مطاري دمشق وحلب الدوليين خلال شهر تموز 2025؛ إذ سجّل مطار حلب الدولي حجماً قياسياً من الشحن الوارد بلغ 133,300 طن، مقابل 6,370 طناً فقط في مطار دمشق الدولي، الذي سجل في المقابل 91,480 طناً من الشحن الصادر، ما يعكس تحولات لوجستية واقتصادية في خارطة النقل الجوي داخل البلاد.

وفي السياق ذاته، شهد قطاع الشحن البري بين سوريا وتركيا نشاطاً ملحوظاً، حيث ارتفعت رحلات الشحن بنسبة 60 في المئة، خلال شهر تموز، وفق مصادر تركية، في مؤشر على تحسن العلاقات التجارية وتزايد الطلب على البضائع.

كما سجل مرفأ اللاذقية حركة نشطة في عمليات الاستيراد خلال الأشهر الماضية، شملت سلعاً متنوعة من القمح والسيارات إلى المعدات الصناعية والمواد الأولية، ما يعكس ديناميكية جديدة في القطاع اللوجستي السوري، ويؤشر إلى بداية مرحلة اقتصادية أكثر انفتاحاً وتكاملاً مع الأسواق الإقليمية والدولية. يسلّط هذا التقرير الضوء على واقع قطاع الشحن من خلال لقاءات مع شركات متخصصة في الاستيراد والتصدير، لمعرفة انعكاس رفع القيود الدولية على حركة الشحن إلى سوريا، سواء من حيث عدد الطلبات أو نوعية البضائع المطلوبة، وهل شهدت حركة الشحن تسهيلات جديدة في الإجراءات الجمركية، وتحسناً في التعاملات البنكية وتحويل الأموال، وما هي العقبات القائمة، وماذا عن أسعار الشحن وتكاليف التأمين على البضائع، خصوصاً تلك القادمة من مناطق تعتبرها شركات التأمين عالية المخاطر.

الشحن إلى سوريا:

بين الانفتاح والتعقيدات البنيوية في ظل الانفتاح الاقتصادي النسبي الذي تشهده سوريا مطلع عام 2025، بدأت حركة الشحن تشهد تحولات ملموسة، رغم استمرار بعض القيود.

وقالت ليلى خضرة ـ خبيرة في الشحن الدولي والتخليص الجمركي ـ لموقع "تلفزيون سوريا"، إن رفع العقوبات انعكس بشكل مباشر على حركة الشحن، حيث فُتحت المعابر الحدودية مع الدول المجاورة، وبدأت المرافئ بالعمل، مضيفة: "نحن بانتظار تفعيل حركة الشحن عبر المطارات".

وأكدت أن "حجز الحاويات بات أكثر سهولة ولم نعد بحاجة لتوقيع خطابات النوايا (LOI)، رغم استمرار الحاجة إلى موافقات OFAC التي نُوعد بإزالتها قريباً للحاويات المتجهة إلى سوريا. 

من جهته، أوضح ماهر الطويل، مدير شركة "Across MENA" للوجستيات التجارة والشحن الدولي، في تصريحه لموقع" تلفزيون سوريا"، أن العقوبات لم تُرفع بشكل كامل، إلا أن الخطوة أسهمت في تنشيط حركة السفن نحو الموانئ السورية، مشيراً إلى أن هذا التحسن مرتبط بالانفتاح على الأسواق، والسماح بدخول مواد كانت محظورة سابقاً، إضافة إلى عودة اهتمام المستثمرين. وحول حجم الطلبات وعدد الشحنات، قالت خضرة إن "السماح باستيراد نحو 99 في المئة من المواد أدى إلى زيادة واضحة في حركة الشحن، ما يعكس انفراجاً نسبياً في السوق".

في حين أكد الطويل أن هناك زيادة في حجم الطلبات وعدد الشحنات منذ بداية عام 2025، مع إعادة تفعيل عقود التوريد المؤجلة.

تسهيلات جديدة وعقبات قائمة

وفيما يتعلق بالتسهيلات الجديدة، أشارت خضرة إلى "تخفيف إجراءات التحقق من قبل فرق العقوبات (sanction team)، لكننا ما نزال نعتمد على مرافئ ومطارات الدول المجاورة مثل العقبة وبيروت، مما يزيد من تعقيد العمليات ويطيل زمن التنفيذ". أما الطويل، فذكر أن "معظم التحويلات المصرفية ما تزال مقيدة، لكنها تشهد تحسناً تدريجياً، مع عودة تدريجية لشركات التأمين والخطوط الملاحية". ورغم هذه التسهيلات، ترى خضرة أن العقبات ما تزال حاضرة، وعلى رأسها "استمرار الحاجة إلى موافقات OFAC، إضافة إلى ضعف الثقة في النظام البنكي السوري، مما يعرقل عمليات التحويل المالي ويؤثر على حركة الشحن". ووافقها الطويل، مضيفاً أن "كثرة الوثائق والمتطلبات تؤثر على سرعة ومرونة عملية الشحن، حيث تستغرق الإجراءات وقتاً طويلاً يتسبب في تأخير تأكيد الحجوزات"، مشيراً إلى أن السوق بانتظار إزالة العقوبات بشكل نهائي مع نهاية 2025 لتحقيق انفتاح كامل.

بنية تحتية غير مهيأة للاستجابة

وفيما يخص البنية التحتية داخل سوريا، قالت خضرة إن "المعابر سيئة جداً، والمرافئ والمطارات بحاجة إلى معدات أكبر وأحدث لاستيعاب جميع أنواع الشحنات، وهو ما يحدّ من قدرة السوق على الاستجابة للطلب المتزايد". في حين أشار الطويل إلى "محدودية تجهيزات المرافئ، وضعف بعض الطرق الداخلية، والانقطاعات الكهربائية" كأبرز الصعوبات أمام التوصيل الداخلي.

أسعار الشحن والتأمين: تفاوت واستقرار نسبي

وعن أسعار الشحن، أكدت خضرة أنها "لم تتغير بشكل ملحوظ، إذ ما تزال تتفاوت حسب العرض والطلب والمواسم والعطلات، خاصة من الصين وشرق آسيا، كما أن دخول شركات شحن جديدة خلق منافسة أكبر في السوق".

أما الطويل، فأوضح أن "الأسعار انخفضت نسبياً نتيجة تراجع المخاطر، لكنها ما تزال أعلى من المعدلات الإقليمية". وفيما يتعلق بتكاليف التأمين على البضائع، قالت خضرة إنها "لم تشهد أي تغيير حتى الآن"، في حين أشار الطويل إلى أن "تكاليف التأمين تراجعت بشكل عام، مع بقاء علاوات إضافية على الشحنات الحساسة".

فروقات بين الشحن الجوي والبحري والبري

أما عن فروقات الأسعار بين أنواع الشحن، فأوضحت خضرة أن "الشحن الجوي هو الأسرع لكنه الأغلى، والبحري هو الأرخص لكنه الأبطأ، أما البري فيأتي في الوسط من حيث الكلفة والسرعة، ويُعد الشحن البحري الأكثر طلباً في السوق السورية حالياً". ووافقها الطويل، مضيفًا أن "الشحن البحري هو الأرخص والأكثر طلباً، والبري بديل إقليمي فعّال عبر تركيا والعراق، أما الجوي فهو مرتفع التكلفة ويُستخدم للبضائع العاجلة ومرتفعة القيمة".

الجمركة: غياب الكفاءات وتفاوت في الأنظمة

وفيما يخص الإجراءات الجمركية، انتقدت خضرة غياب الكفاءات وتفاوت الأنظمة، قائلة: "تخيل أن بعض الأمانات تستعين بمنصات الذكاء الاصطناعي مثل شات جي بي تي للتعرف على البضائع، ولا يوجد نظام موحد لكل الأمانات، كما أن الرسوم الجمركية تُحتسب على الوزن فقط، بينما يجب أن تشمل القيمة أيضاً. هل يُعقل أن تُعامل البضائع الصينية بنفس رسوم البضائع الأوروبية أو الأميركية؟".

وأضافت: "من غير المنطقي السماح باستيراد حبيبات البلاستيك المجددة، فماذا عن صحة المواطنين؟ كما أن معابر الشمال السوري مفتوحة لتخليص البضائع دون موافقات، بينما يجب أن يكون التخليص ضمن الأمانات الداخلية لضمان الرقابة". أما الطويل، فأكد أن "الإجراءات الأساسية لم تتغير، لكن نلاحظ مرونة أكبر من موظفي الجمارك ومعالجة فورية لأي مشاكل طارئة".

البضائع الأكثر شحناً: البناء يتقدم والصناعة تتراجع

وعن أكثر أنواع البضائع التي يتم شحنها إلى سوريا حالياً، قالت خضرة إن "مواد البناء والآلات والسيراميك والغرانيت تتصدر القائمة، لكن هناك تراجع كبير في استيراد المواد الأولية نتيجة تراجع الصناعة المحلية، وهو ما لا يخدم الاقتصاد السوري".

في حين ذكر الطويل أن "الأغذية، الأدوية، الآلات وقطع الغيار، السيارات وقطع التبديل، مستلزمات البناء، الأخشاب، والمواد الاستهلاكية" هي الأكثر شحناً حالياً.

وفي ختام حديثها، قالت خضرة إن "الطلب تغير بعد الانفتاح الاقتصادي، إذ سُمح باستيراد جميع أنواع البضائع، والسوق السوري بات أكثر تنافسية، ونأمل أن يحمل المستقبل مزيداً من الانفراج". ووافقها الطويل، مضيفاً أن "المستقبل واعد إذا تواصلت التسهيلات وترافقت مع استثمارات في المرافئ والطرق وكثرت المنافسة بين الخطوط الملاحية الناقلة، مع ضرورة معالجة التحديات المصرفية واللوجستية".

وفي ضوء التصريحات المتقاطعة بين خبراء القطاع، يتضح أن حركة الشحن إلى سوريا تشهد تحولات تدريجية نحو الانفتاح، مدفوعة بتخفيف القيود وتزايد الطلب، لكنها لا تزال تواجه تحديات بنيوية ومصرفية تعيق الوصول إلى بيئة لوجستية مستقرة وفعّالة.

وبين التفاؤل الحذر الذي عبّرت عنه ليلى خضرة، والرؤية الاستراتيجية التي طرحها ماهر الطويل، تبرز الحاجة إلى إصلاحات متكاملة تشمل البنية التحتية، والأنظمة الجمركية، والثقة المصرفية، لضمان استدامة هذا الانفتاح وتحويله إلى نمو اقتصادي ملموس، فالمستقبل واعد، لكنه مشروط بقدرة السوق على تجاوز العقبات وتفعيل أدواته بكفاءة.



المصدر : تلفزيون سوريا


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة